عزيزي القارئ،
أدعوك في هذه الصفحات إلى رحلة مختلفة، رحلة عبر الزمان والمكان، حيث يبدأ مشواري المهني كمعلم شاب في قلب جبال الريف الشامخة. لم تكن حكايتي مجرد قصة عن التعليم، بل هي حكاية عن التحديات التي واجهتها، عن بساطة الناس الذين عشت بينهم، وعن المغامرات التي صنعت مني الشخص الذي أنا عليه اليوم. مساري في التعليم، الذي بلغ اليوم ستةً وعشرين عاماً، مليء بالذكريات والدروس والعِبر، التي علّمتني أكثر مما كنت أتصور. ستبدأ هذه الرحلة مع الفصل الأول، حيث سيكون الطريق إلى مدرسة العرصة مفتاحاً لبقية الحكاية، وسأتركك متلهفاً لاستكمال بقية الفصول التي ستنشر تباعاً. وللإشارة فكل الأحداث الواردة في هذا السرد والشخصيات المذكورة حقيقية وواقعية وحدثت فعلا، ولا مكان للخيال أو التصرف فيها خدمةً لحبكةٍ دراميةٍ أو غيرها.
"خطوات على حافة الوادي: مغامرات معلم في قلب جبال الريف" هي دعوة للتأمل في معاني البدايات، والصبر، والتعلم من كل خطوة نخطوها على دروب الحياة.
أتركك الآن مع أولى صفحات الرواية...
الفصل الأول - "الطريق إلى العرصة"
في خريف سنة 1999، كنت في مقتبل العمر، متسلحاً بأحلام كبيرة لمستقبل مهني واعد في التعليم. عندما تسلمت قرار تعييني بإقليم الحسيمة، شعرت بمزيج من الفخر والخوف؛ لم أكن أعرف أن الطريق إلى أولى خطواتي المهنية سيكون مليئاً بالتحديات.
انطلقت الرحلة نحو مجموعة مدارس أولاد أحمد وبالضبط نحو مدرسة العرصة، التي سمعت عنها الكثير، لكن لم أكن أتصور حجم العزلة والصعوبة التي تنتظرني. الطرق والمسالك غير معبدة، وسائل الاتصال والتواصل منعدمة، المنحدرات حادة، والرياح الجبلية القاسية لا ترحم. كنت أتساءل خلال الرحلة: "هل سأصل؟ وكيف سيكون ذلك العالم الجديد الذي اخترت أن أكون جزءاً منه؟".
عندما وصلنا أخيراً رفقة رفاق الدرب الجدد الميلود ومحمد، بعد ساعات من الصراع مع الطبيعة، وجدت المدرسة بسيطة، تحيط بها تضاريس جبال الريف الصخرية. لم تكن هناك تجهيزات تُذكر، لكنها كانت مكاناً أرى فيه المستقبل وأسمع فيه أصوات التلاميذ وهم يصيحون "أستاذ نغ يوسيد .. أستاذ نغ يوسيد".
رغم التعب والمشقة، شعرت بنوع من الطمأنينة والسلام بالمكان، وأن كل خطوة على ذلك الطريق الوعر كانت ضرورية لأبدأ فصلاً جديداً في حياتي!
الفصل الثاني - "ليلة في الدوار"
بعد يوم طويل وشاق من المشي على الأقدام، من المدرسة المركزية إلى دوار العرصة، انتهى بنا المطاف أنا وزميلي الجديد الميلود في ضيافة صديقنا محمد. كان محمد قد استقبلنا بترحاب كبير في بيته المتواضع، حيث جلسنا جميعاً حول مائدة العشاء. رغم بساطة الأكل، كان كل شيء مفعماً بالدفء والتقدير. التهمنا الطعام ونحن نضحك ونتحدث عن اليوم الأول الذي ينتظرنا في المدرسة.
بعد العشاء، شعرت بالحاجة للعودة إلى سكني، لكنني كنت أعلم أن الميلود سيصاحبني، فقلت له:
"الميلود، حان الوقت لنعود إلى سكننا لنستريح قليلاً، اليوم كان طويلاً."
نظر إلي الميلود مبتسماً، ثم انفجر ضاحكاً وقال:
"سكننا؟! يا صاحبي، يبدو أنك لا تعلم أين نحن! لا مكان لنا هنا سوى عند صديقنا محمد، على الأقل في اليومين المقبلين."
نظرت إليه باستغراب، فسألته:
"ماذا تقصد؟ ألم يُعِدّوا لنا سكن المعلمين بعد؟"
ضحك الميلود مرة أخرى، وكأنني طرحت سؤالاً سخيفاً، وقال:
"أهل الدوار سيعدّون لنا مكاناً للإقامة، لكن الأمر سيستغرق يومين. خلال هذه الفترة، سنبقى هنا عنده."
"وأين سنسكن بعدها؟"
ابتسم الميلود ابتسامة خفيفة وقال:
"في المسجد!"
"المسجد؟!" قلت بدهشة، محاولاً تخيلنا نائمين بين المصلين وقرب المحراب.
ضحك الميلود أكثر، ثم قال:
"لا تقلق، ليس كما تتخيل. بالمسجد بيت صغير بجوار بيت فقيه الدوار. سنقيم هناك حتى إشعار آخر!"
لم أتمكن من الرد في البداية، فقد كنت مشدوهاً بالفكرة. كيف يمكن أن يكون سكني في مسجد؟!! كنت أتخيل كل ليلة كيف سنجلس بجوار المحراب، ننتظر الفجر مع المصلين. ولكن سرعان ما أدركت أن الأمر ليس بالسوء الذي تخيلته، خصوصاً عندما أخبرني الميلود عن البيت المخصص لنا.
غمرني إحساس عجيب بين القلق والتشوق لتجربة جديدة ومختلفة. كانت الأيام المقبلة تحمل في طياتها الكثير من المفاجآت التي لم أكن على علم بها.
استسلمت للفكرة في نهاية المطاف، وحاولت أن أستوعب الأمر. بعد كل شيء، لم يكن لدي خيار آخر. قضينا تلك الليلة في بيت محمد، حيث ساد الهدوء وتسللت نسمات الريف الباردة من النوافذ الصغيرة، حاملة معها رائحة الطبيعة التي أحاطت بنا من كل جانب. وبينما كنت أحاول أن أستريح على فراشي، بدأت أفكر فيما ينتظرني في المسجد، وكيف سيكون هذا "البيت" الذي سأقيم فيه مع الميلود.
في صباح اليوم التالي، وبعد تناول وجبة الإفطار التي أعدتها زوجة محمد، انطلقنا في جولة سريعة حول القرية الصغيرة. كانت المنازل متواضعة، والشوارع عبارة عن ممرات ترابية ضيقة. لفت انتباهي بساطة حياة الناس هنا؛ كانت السكينة تغمر كل شيء، على عكس صخب المدن الذي اعتدت عليه.
حين اقتربنا من المسجد، استوقفني مشهد الناس وهم يعملون بجد. كانوا منهمكين في إعداد المكان الذي سنقيم فيه. لقد كانت فكرة غريبة حقاً أن أسكن في مكان يجاور بيت الفقيه.
لم أستطع أن أمنع نفسي من طرح سؤال آخر على الميلود:
"أحقاً سنقيم هنا؟ كيف يمكننا أن نعيش وسط هذه الأجواء؟"
ابتسم الميلود مرة أخرى، وأجاب بثقة:
"سترى أن الأمور ليست كما تبدو.. هنا، كل شيء بسيط، والناس يُقبلون على حياتهم بتلقائية. سنجد راحتنا أكثر مما تتصور."
وبالفعل، بعد يومين من الاستعدادات، كان "سكننا" جاهزاً. دخلت المكان وأنا أشعر بمزيج من الفضول والخوف. كان البيت المتصل بالمسجد عبارة عن غرفة صغيرة، مزودة ببعض الأثاث البسيط. كل شيء يوحي بالتواضع، لكن هناك شيء ما جعلني أشعر بالراحة.
فتحت النافذة الصغيرة للغرفة بصعوبة، أصدرَتْ أزيزاً حاداً كأنها لم تُفتح منذ زمن بعيد. تطلعت عبرها، لأتفاجأ بمشهد غريب. تُرى، ما هذا؟! شواهد بيضاء متراصة، وأشجار كثيفةٌ تحيط بالمكان في صمتٍ مهيب... إنها مقبرة!
الفصل الثالث - "أول يوم بالمدرسة"
مع مرور الأيام، بدأت أعتاد على هذه الحياة الجديدة. كان أهل القرية يأتون لزيارتنا من حين لآخر، يقدمون لنا الطعام ويشاركوننا قصصهم. كل يوم كان يحمل لي درساً جديداً عن الكرم والرضا بما تيسر.
وبينما كنا نستعد لبدء عملنا في المدرسة، أدركت أن هذه البداية، رغم صعوبتها، كانت ضرورية. كنت في طريق لا يشبه أي طريق سلكته من قبل، لكنه فتح أمامي أبواباً لم أكن أتوقع أنني سأطرقها يوما!
استيقظت في صباح اليوم الأول على وقع الأصوات الهادئة للطبيعة، وشعرت بمزيج من الحماس والتوتر. كنت أعلم أن اليوم سيكون مختلفاً، فهو بداية لمرحلة جديدة في حياتي المهنية. حملت كتبي وأوراقي واتجهت نحو المدرسة، والتي لم تكن سوى حجرتين بجانب سكن زميلنا محمد وسط غابة من شجر القطلب (ساسنو)، أو كما يسميه الناس هناك (باخنو)، كانت المدرسة بعيدة بعض الشيء عن المساكن فوق تلة معزولة.
بينما كنت أخطو خطواتي الأولى نحو فصلي كمدرس في مدرسة العرصة، لم أستطع إلا أن أسترجع ذكريات يومي الأول كتلميذ صغير، عندما دخلت الفصل لأول مرة بحقيبة صغيرة وقلب مليء بالرهبة والتساؤلات. كانت تلك البدايات البسيطة تحمل في طياتها رهبة اكتشاف عالم جديد. واليوم، وأنا أقف في نفس الموقف لكن من الجهة الأخرى، أدركت كم تغيرت الأدوار. أصبحت المسؤول عن تلك العيون المتطلعة نحوي، أحمل في يدي علماً أشاركهم إياه، بينما يشاركونني هم حماسهم الفطري للتعلم. شعرت حينها بأن الدائرة قد اكتملت، وأن تلك الخطوة الصغيرة التي بدأتها كتلميذ قادتني في النهاية إلى الوقوف هنا، كمعلم يحمل أمال وتطلعات هؤلاء الصغار.
عندما دخلت الفصل، وجدتهم أمامي، كانوا موزعين على أربعة مستويات دفعة واحدة: الثالث، الرابع، الخامس، والسادس ابتدائي، جميعهم ينتظرون بشغف. تحدّثت معهم قليلاً، وأدركت سريعاً أن معظمهم لا يتحدثون الفرنسية إلا بضع كلمات، بينما كان بعضهم يكاد لا يعرف اللغة العربية على الإطلاق. كانت مهمتي تدريسهم اللغة الفرنسية والرياضيات، وكان التحدي أكبر مما تصورت.
بعد الحصة الأولى، قررت عقد اتفاق مع تلاميذي: سأعلّمهم بكل جدية، وبالمقابل، سيعلمونني هم اللغة الأمازيغية "تريفيت" التي لا أعرف منها كلمة ولا حرفا ! كانت الفكرة مثيرة بالنسبة لهم، ووجدت فيهم شغفاً كبيراً لتبادل المعارف. كانت تلك اللحظة بداية علاقة جديدة بيننا، علاقة تقوم على تبادل التعلم والثقة.
في فترة الاستراحة، اقترب مني تلميذي الصغير بوجمعة. كان يحمل دفتره الصغير تحت ذراعه، وقال لي:
"أستاذي، نحن نعيش حياة صعبة في الدوار. أحياناً يقطع علينا الوادي الضخم كل السبل نحو السوق، فنضطر للمكوث أياما دون التزود بما يلزمنا من أساسيات."
اقتربت من حافة الجرف السحيق الذي تطل عليه المدرسة، فبدا لي الوادي المرعب يمتد في الأسفل، كأنه أفعى ضخمة تتلوى بين الصخور. خطوطه المتعرجة تتسلق سفوح الجبال وتنحدر بحدة نحو الأفق البعيد. بدا خالياً في تلك اللحظة، فلا ماء يتدفق في مجراه، بل مجرد حجارة ضخمة متناثرة بشكل عشوائي، وكأنها بقايا معركة قديمة بين الطبيعة والزمن. الصمت يملأ المكان، ولا شيء سوى الهواء البارد يمر عبر هذا الوادي الخالي، الذي يحتفظ بجو من الرهبة والغموض، وكأنه يتربص في انتظار العواصف القادمة لتملأه مجدداً بالحياة.
عرجت بنظري مجددا نحو بوجمعة وسألته:
"وكيف تقضي وقتك خارج المدرسة، بوجمعة؟"
أجابني بابتسامة حزينة:
"أساعد والدي في الحقل أو أرعى الأغنام. ليس لدينا وقت للعب مثل باقي الأطفال."
كانت كلماته تلامسني بعمق، وأدركت حجم التحديات التي يواجهها هؤلاء الأطفال، ومع ذلك كانوا يأتون إلى المدرسة بشغف لتعلم شيء جديد كل يوم.
لم يكن الأمر يقتصر على المدرسة فقط؛ فقد بدأت أكتشف بساطة الناس في الدوار وكرمهم الذي لا حدود له. كلما مررت ببيت، دعاني أهله لتناول الطعام أو احتساء الشاي. في كل مرة كنت أشعر بأنني جزء من هذا المكان البسيط الذي فتح لي ذراعيه.
أثناء تجوالي في الدوار، التقيت برجل يدعى "لفقير محمد"، راعي أغنام بسيط. كان لفقير دائم التجوال بين التلال، علمت من الميلود ومحمد أنه رفيق لهم منذ سنين. كان يمر بالمدرسة كل صباح ليرحب بنا، يحمل معه ضحكته العريضة وحكاياته التي لا تنتهي عن الحياة في الجبال.
في المساء، بعد أن أغلقت باب الفصل، قررت أن أتصل بأهلي لأخبرهم عن ظروف مُقامي هنا وأطمئنهم عني. حين أخبرت الميلود برغبتي، ابتسم وقال لي:
"إذا كنت ترغب في الاتصال، عليك الذهاب إلى بني عمارت. لكن سنحتاج للاستيقاظ فجراً. فالطريق طويل وصعب، علينا سلوك طريق الوادي الشمالي، وعبور فج "إيبجبيجن"... إنه مسار خطير، لكن هو السبيل الوحيد."
أدركت حينها أن الاتصال بأهلي سيكون مغامرة أخرى في حد ذاتها، لكنها ضرورية لأبقى على اتصال بالعالم خارج هذه الجبال.
الفصل الرابع - "على ظهر البيرلي ..رحلة العودة بين الجبال والثيران"
بعد مغادرة الدوار في صباح اليوم التالي، كان ينتظرنا الطريق الأصعب الذي سمعنا عنه الكثير؛ فج "إبجبيجن"، ذاك الفج الذي يُعتبر كالسد المنيع أمام القادمين من البوادي الجبلية. من اللحظة التي وضعنا فيها قدمينا على سفحه الحاد، شعرنا بثقل المهمة؛ بدا الفج وكأنه جدار ممتد نحو السماء. كان التسلق متعبا، وكنت أشعر وكأن جسدي يمر بامتحان جسدي قاسٍ. تارة نخطو فوق صخور ملساء وتارة نحتمي بجذوع الأشجار المتناثرة.
أثناء تسلقنا، بدأنا نلاحظ حركة شباب من بعيد، يحملون حقائبهم فوق أكتافهم متجهين نحو "كتامة".
كنت أتساءل ما إذا كانوا يعيشون نفس التحديات أم أن الجبال لهم مجرد محطة عبور، أما لنا فهي مغامرة يومية. لم يكن الأمر سهلاً ونحن نراقبهم وهم يتنقلون بخفة بين الصخور.
لم يكن المشهد مقتصراً على البشر؛ فقد بدأنا نلمح الحياة البرية تتنقل بين الشجيرات. خنازير برية تظهر بصغارها هنا وهناك، تتحرك في مجموعات وكأنها تحذرنا من الاقتراب. ثعلب بري تسلل بسرعة من أمامنا، مختفياً بين الصخور، ليتأكد من أنه لن يصبح جزءاً من حكايتنا. كانت الطبيعة بأكملها تتحرك، تشاركنا هذا الطريق الصعب.
بعد حوالي ثلاث ساعات من الجهد والعناء، وصلنا أخيراً إلى بني عمارت. كان التعب قد استنزف قواي، والتنفس أصبح شاقاً. توجهنا مباشرةً للبحث عن شخص يُدعى "الحشايشي"، فقد قيل لنا إنه الوحيد الذي يملك هاتفاً في هذه القرية. في تلك الأيام، لم يكن الهاتف الخلوي سوى خيالا مستقبليا، وكنا نعتمد على تلك الهواتف العمومية للتواصل مع أحبائنا.
عندما وصلنا إلى دكان "الحشايشي"، استقبلنا بترحيب بسيط، وأذن لنا باستخدام الهاتف، ممسكا عداد ساعته لاحتساب ثواني المكالمة. تناولت السماعة بحذر واتصلت بمنزلنا. بعد انتظار طويل، سمعت صوت أمي:
– "الو؟"
– "السلام عليكم أمي، إنه أنا مصطفى."
تردد صوتها قليلاً قبل أن تنطق:
– "مصطفى؟ كيف حالك بني؟ هل أنت بخير؟"
– "أنا بخير، الحمد لله. الطريق كان صعباً، لكننا وصلنا بسلام."
سمعت صوت أبي من بعيد يسأل:
– "أخبريه أن ينتبه لطريق العودة!"
– "والدك يقول انتبه لطريق العودة."
– "سأفعل أمي، سأكون حذراً. أتمنى أن أعود قريباً."
بعد إنهاء المكالمة وتسديد دريهمات معدودة لصاحب الدكان، تملكني التفكير في الطريق الذي ينتظرنا للعودة. كان الشعور بالإرهاق يتزايد، وكل خطوة شعرنا بها وكأنها تحمل ثقلاً أكبر من السابقة.
وبينما كنت أغوص في أفكاري المرهقة، قاطعني صوت الميلود وهو ينادي بفرح: "ها هو أمرزگيو!" لم أستوعب ما يحدث في البداية، لكن الميلود أوضح لي أننا لن نحتاج للعودة عبر فج إبجبيجن بعد كل هذا العناء. أمرزگيو، سائق شاحنة البيرلي وصاحب الدكان الوحيد في دوار العرصة، كان يهم بالعودة إلى الدوار، وقد دعانا للركوب معه، صحيح أنه سيسلك طريقا رمليا أطول عبر جماعة سيدي بوزينب، ولكن هي فرصتنا لالتقاط الأنفاس.
ركبنا في الجزء الخلفي من الشاحنة، حيث كان القطيع يستلقي على أرضها الترابية. بجانبنا ثور ضخم، هادئ لكنه يثير الرهبة، وحوله بعض الأغنام. لم يكن هذا المكانَ المريحَ للركب، لكنه كان أفضل بكثير من تسلق الفج مرة أخرى.
الفصل الخامس - "الطريق إلى الديار بين هدير الوادي ونداء الجبال"
بعد أن وصلنا إلى الدوار، استقبلتنا تلك الوجوه المألوفة التي أصبحت تعني لي الشيء الكثير، رغم صعوبة الحياة هنا، بدأ الوقت ينساب بين التدريس وتقاسم المعارف مع تلاميذي الصغار كما سبق واتفقنا، وقد ألفتني جدران القسم، وكنت أحاول جاهدًا أن أغرس فيهم ما أستطيع من معارف رغم كل التحديات، وأن أتعلم في المقابل أكبر عدد من الكلمات والجمل الريفية.
مرّت الأيام وأنا أزداد استئناسًا بأصوات الأطفال وضحكاتهم التي كانت تنير جو الحجرة، ولم يكن يمر يوم دون أن أحاول اكتشاف تفاصيل صغيرة عن هذا المكان القاسي والبهي في آن. بدأت أفكر في اكتشاف المحيط، فقررت يومًا أن أزور أقرب فرعية لمدرستي. كانت تسمى "تيسومار"، ولما سألت تلاميذي عن معناها، أخبروني بابتسامة خفيفة أنها تعني "المُشمسة". لم أستطع إلا أن أبتسم، ففي هذه المنطقة المُشمسة قساوة ولكنها تحمل دفئًا خاصًا.
عندما وصلت إلى مدرسة تيسومار، التقيت بزملائي الذين كانوا يمرون بتجارب مشابهة. تحدثنا طويلًا عن التحديات، وتلك الليالي الطويلة التي قضيناها في التفكير، محاولين إيجاد حلول لكل مشكلة. لم تكن الحياة سهلة، لكنها كانت مليئة بالدروس.
في طريقي للعودة إلى الدوار، بدأت السماء تمطر بشدة، ولم أكن أدرك حينها أنني سأواجه الوادي في أكثر حالاته غضبًا. وصلني صوت الوادي أولًا، ذاك الصوت الذي ارتعدت له أوصالي. وعندما اقتربت منه، كانت صدمتي عظيمة. تيار المياه الهائج كان يشق الأرض بعنف، منظر الوادي المتدفق كان كافيًا ليعيد إلى ذهني كلام تلميذي بوجمعة، الذي أخبرني ذات يوم عن فيضانات الوادي، وحذّرني. شعرت في تلك اللحظة بالعجز، فالوادي كان يزأر بلا توقف، وكلما نظرت إليه شعرت وكأنه يبتلع كل شيء في طريقه.
في اليوم التالي، لم يحضر أي تلميذ إلى المدرسة. سألت الميلود عن السبب، فأخبرني ببساطة: "إنهم يخشون الوادي الذي يقطع الطريق على غالبيتهم". لم يكن لدي خيار سوى الانتظار، فقد توقفت الحياة إلى أن ينخفض مستوى المياه. مرَّ أكثر من أسبوع، وأنا أراقب الوادي وأتساءل متى سيتراجع عن زئيره المخيف. لكن رغم كل التحذيرات، اتخذت قراري خلال نهاية الأسبوع بالعودة إلى تازة في زيارة خفيفة.
كانت عطلة نهاية الأسبوع مختلفة تمامًا عما اعتدته في حياتي السابقة. هنا، لا تصادف نهاية الأسبوع يومي السبت والأحد كما هو شائع، بل كان الأحد والاثنين. يوم الأحد مساء كان راحة من عناء العمل، أما الاثنين فكان يوم العطلة والسوق الكبير، حيث يتجمع الناس من كل أنحاء الدواوير المجاورة بسوق بني عمارت للتجارة وشراء احتياجاتهم. كان هذا اليوم حدثًا مركزيًا في حياة السكان، فلم يكن مجرد سوق بل ملتقى اجتماعيا يتبادلون فيه الأخبار والأحاديث.
أخبرني الميلود ومحمد أنني يجب أن أتجنب الوادي قدر المستطاع، وأن أصعد عبر جبل تايدة مرورًا بدواوير عين عشبون وتامجونت. لم أكن أدري ما الذي ينتظرني، لكن شيئًا في داخلي كان يدفعني نحو المغامرة.
ما الذي سيحمله لي هذا الطريق؟ وما المفاجآت التي سأواجهها في رحلتي نحو تازة؟
الفصل السادس - "حين تُعاندك الطبيعة ويُنقِذك الإنسان"
مع بزوغ فجر الأحد، كان علي أن أبدأ رحلتي الطويلة نحو تازة. كان الهواء منعشًا رغم برودته، فيما كانت الأرض مبللة بقطرات الندى التي تساقطت خلال الليل. شققت طريقي بحذر، متجهًا نحو وادي العرصة، الذي تجري فيه المياه وكأنه شريان ينبض بالحياة في قلب الطبيعة. كانت الأحجار المنتشرة على ضفافه تتيح لي فرصة القفز عليها بخفة، وكأنني أراوغ الزمن، أهرب من دوار العرصة إلى مساحات أوسع من حياتي.
بعد عناء، وصلت إلى الضفة المقابلة، وبدأت أصعد سفح جبل تايدة. كان السفح شاهقًا، وبدأت أشعر بصعوبة في التنفس مع كل خطوة أخطوها. شعرت بأن الأرض تسحبني نحوها، لكن قلبي كان يسرع ليحثني على مواصلة الصعود. تذكرت في تلك اللحظة قول الشاعر أبي القاسم الشابي: "ومن يتهيب صعود الجبال، يعش أبد الدهر بين الحفر." كان هذا البيت الشعري يعيد إلي عزيمتي، وكأن الجبال تهمس لي بأن الاستسلام ليس خيارًا.
بعد أن بلغت القمة، جلست تحت ظلال الأشجار الباسقة، أتنفس الصعداء. المكان كان يغمرني بهدوء غريب، وكأنني أتنفس السكينة مع كل نسمة هواء. لكن، لم يكن لدي متسع من الوقت لأطيل الراحة. نهضت من مكاني ومضيت في طريقي، وكلما تقدمت، صادفت وجه الحياة الريفية يتجلى أمامي، فصادفت راعٍ يسير مع قطيعه. كان الكلب بجانبه، مبتور القائمة الأمامية، لم ألتفت إليه في البداية، وواصلت سيري مطمئنًا، حتى فوجئت به يهجم علي. ارتعد قلبي لوهلة، كادت أن تكون تلك اللحظة نهاية رحلتي، لولا الألطاف الإلهية وتدخل الراعي في الوقت المناسب. تجمدت للحظة، شاكراً الراعي على تدخله، وأكملت المسير برهبة من كل خطوة قد تخبئ لي ما هو غير متوقع.
بينما كنت أسير، شعرت بثقل العالم على كتفيَّ. كنت أفكر في كل مرة سأقرر فيها الذهاب من وإلى العرصة، وكيف أن هذه الرحلة ستكون مغامرة تتكرر بصعوبة أكبر. عندها، عقدت العزم في نفسي بأنني لن أخاطر بالسفر وحيدًا مرة أخرى. فقد فهمت الآن فقط المغزى الحقيقي للمثل القائل: "الرفيق قبل الطريق."
مرّ الوقت بطيئًا، وبدأت قرية بورد تتجلى من بعيد كسراب يحمل وعد الراحة. شعرت بفرح غامر، فقد بدا لي أنني وصلت هدفي بسلام. لكن، المفاجأة كانت بانتظاري عند ضفة الوادي الذي يفصلني عن القرية. كان واد "تمجونت" مخيفًا، مياهه جارية بقوة، والمكان موحل بطريقة لا يمكن تجاهلها. كلما حاولت التقدم، غاصت قدمي في الطين، وكأن الأرض تأبى أن تتركني أعبر بسهولة.
فجأة، لمحت بعض الصخور التي بدت لي كطريق خلاص. توكلت على الله وقفزت نحو الصخرة الأولى، ثم الثانية. قلبي كان ينبض بشدة، ولم يتبقَّ الكثير، إلا أنني تعثرت وسقطت في الوادي. كانت تلك اللحظة مرعبة، لكن بحمد الله، تمكنت من التشبث بأغصان القصب التي كانت على الضفة المقابلة، ما ساعدني على القيام مرة أخرى والقفز بسلام إلى اليابسة.
ابتلَّت ملابسي تمامًا، والحذاء الذي كان يحملني في هذه الرحلة أصبح الآن غارقا في الطين، فتبادلنا الأدوار وحملته أنا هذه المرة لأكمل المسار حافيا. شعرت بالبرد يتسرب إلى عظامي، وبدأت أسأل نفسي: ما كل هذا العناء؟ هل يستحق الأمر كل هذه الصعاب؟ فكرة البقاء في تازة وعدم العودة إلى العرصة كانت تتسرب إلى ذهني مثل حلم بعيد.
وصلت أخيرًا إلى قرية بورد، حيث كان الناس ينظرون إلي بدهشة، يتساءلون عن هذا الرجل الذي عاد من الوادي مبتلاً وكأنه قد قَدِم سباحة إلى البلدة. دخلت إلى دكان السيد محمد، الذي كان رجلا ودودا، بعد حديثي معه، تعرف على دوارنا وعلى رفيقيَّ الميلود ومحمد. حينما سألته عن وسيلة نقل تُقِلُّني إلى تازة، لم يتركني أذهب بهذه الحال. استضافني في بيته، قدّم لي طعامًا دافئًا وبعض الملابس الجافة. شعرت بشيء من الراحة والامتنان لهذا الكرم البسيط، وكأنني وجدت ملاذًا وسط كل هذا التعب.
بعد الغداء، خرجنا معًا، والتقينا بسائق سيارة أجرة، كان يُلقَّب بالمير. كان الرجل بشوشًا، مليئًا بالحكايات والنكات التي لا تنتهي. ركبت بجانبه ونحن نسير نحو تازة، والمير يختصر المسافات كما لو كان يطويها بقصصه المرحة. شعرت بأن الرحلة أصبحت أخف، وكأن الجبال التي كنت أخشاها أصبحت جزءًا من تلك الحكايات التي يرويها المير.
وأخيرًا، وصلت إلى تازة. كان هذا الوصول نهاية مؤقتة لمغامرتي، ولكن بداخلي كنت أعلم أن هذه الرحلة ستظل محفورة في ذاكرتي إلى الأبد، ليست كرحلة شاقة، بل كتجربة أضافت الكثير إلى حياتي.
الفصل السابع - "رحلة فوق سِرج المغامرة... بين قمم العزلة وتحديات الوادي"
وصلتُ أخيرًا إلى تازة، تلك المدينة التي تحتضن بين أزقتها وبيوتها ذكريات طفولتي، والأهم بين ذراعيها والديّ الحبيبين. لم أكن أخبرهما أبدًا بما أعانيه من تحديات ومشاق خلال رحلتي بين الدوار والمنزل، خشية أن يثقل القلق قلوبهما. الليلة كانت قصيرة بين ضحكات لقاء الأحبة وحنان والدتي ورضى والدي، وكأنني أسترد بحديثهما معي شيئًا من الصبر والقوة لمواجهة القادم. لكن الزمن يمضي بسرعة، وكانت العودة إلى العرصة تنتظرني عند فجر اليوم التالي عبر بلدة بورد.
عند وصولي إلى بورد، وجدت الوادي قد تراجع قليلًا عن فيضانه السابق، فتسلحت بالثقة وأنا أتهيأ لعبوره. لكن في وسط التيار، لمحت شبحًا يتحرك نحوي من بعيد. كان على ظهر بهيمة، يلوح لي بيديه، اقتربت ملامحه شيئًا فشيئًا، وتبينت أنه الفقير محمد، وجهه يحمل حفاوة اللقاء وابتسامة المودة.
عندما اقترب، بادرني بالسلام وابتسم قائلاً: "علمتُ من الميلود ومحمد بموعد عودتك، فاغتنمت الفرصة لشراء بعض اللوازم من بورد والعودة معك". تردد قليلاً، ثم أضاف ضاحكًا: "الطريق طويل والوادي لا يُؤتَمن، ركوب البهيمة أكثر أمانًا".
تجاذبنا أطراف الحديث ونحن نسير، فأخبرني بواقعة مدير مدرسة دوار الماعلي، الذي سقط ذات يوم من فوق بهيمته عندما حاول عبور الوادي في وقت ذروة جريانه. ضحك الفقير محمد وقال: "لكن لا تقلق، بغالنا هنا متمرسة، تجيد طرق الوديان كما تجيد دروب الجبال".
لم يمضِ وقت طويل حتى دعاني للركوب على بغله، فأجبته بخجل: "حقًا، إنها أول مرة سأركب فيها بغلاً!". ابتسم وأشار لي بالصعود قائلاً: "لا تخف، ستصبح صديقًا لهذه البهائم العجيبة. ستجدها من أصدق رفاق الطريق".
كانت هذه التجربة الأولى لي على ظهر بغل، تجربة مميزة بطبيعتها، لكنها كانت نقطة بداية لعلاقة صداقة فريدة مع بغال ودواب أهل العرصة. في كل مرة نذهب فيها إلى المدرسة المركزية أو نَمُرُّ على الدواوير المجاورة، كان أهل العرصة لا يبخلون علينا ببغالهم، وكأنهم يعرفون أن هذه الرفقة من شأنها أن تجعل رحلاتنا مغامرات ذات طابع خاص.
حين وصلنا إلى ضفة الوادي، هممت أن أشكر الفقير محمد على كرمه وأدعوه ليركب معي على ظهر البغل ونعبر معًا. لكنه رفض بأدب وإصرار، وقال بابتسامة خجولة: "اركب أنت، وأنا سأسير بجانبك، فأنت ضيفٌ علينا، والضيف أولى بالرعاية."
أمسك بلجام البغل، وشرع في عبور الوادي، والمياه ترتفع حوله حتى تكاد تصل إلى خاصرته، لكنه ظل ثابت الخطى، يستند بثقة إلى الحجارة الزلقة التي يعبرها في حذر، وكأنه يأبى أن يُثقل عليّ بأي شيء. مشهدٌ يُجسد معنى الكرم والتضحية الحقيقية، فمحمد هذا الفقير الكريم لم يكن يملك الكثير، لكن قلبه المفعم بالعطاء كان أكبر من أي ثراء.
موقف أكَّد لي، مرة أخرى، مدى نقاء قلوب أهل العرصة، وأخلاقهم السامية التي تفيض دفئًا وحبًا.
ما إن بدأنا بصعود الجبل المؤدي إلى الدوار حتى صار الطريق يزداد وعورة وانحدارًا، والأشواك تتشابك حولنا، فتعرقل سيرنا كلما تقدمنا. ومع ذلك، كان الفقير محمد يسير بخطى واثقة، رغم العرق الذي بلل جبينه وعينيه، متجاهلاً كل مرة إصراري أن يرتاح ويركب معي على ظهر البغل ولو قليلاً، مفضلاً أن يتحمَّل المشقة وحده.
وبعد مسير شاق، لمحنا الدوار أخيرًا يلوح من بعيد، وكان بعض سكانه بانتظارنا. في الأمام، رأيت محمد يُلَوح لي بيده، وقد تجمع حوله بعض الأهالي منهمكين في عمل ما. ولما اقتربنا، كان محمد ومعه عدد من رجال الدوار يقطعون جذوع الأشجار اليابسة ويرتبونها بعناية في زاوية بين جدران حجرتَيْ الفصل الدراسي.
أقبلت عليه مبتسمًا، فاستقبلني بابتسامة ودية وقال: "الحمد لله على السلامة، فقد اشتقنا إليك."
بفضول سألته: "ماذا تفعلون هنا يا محمد؟"
رفع رأسه من عمله ليجيب: "هذه استعدادات الشتاء، هنا، يأتي الشتاء بقسوته، والأشجار تغطيها الثلوج فتجمد كل شيء، ولا أحد يقدر على التنقل. الحطب هو حياتنا وقتها، بدون دفء لن نصمد."
أومأت برأسي مُعجبًا بهذه الحكمة وحرصهم على الاستعداد لكل فصل كما يستحق، شعرت بتقدير عميق لهؤلاء الناس الذين يتحدون قسوة الطبيعة بقلوب صلبة وتكاثف عظيم.
تسارعت الأيام بين صفحات الكتب وأنشطة التحصيل، لم أشعر إلا وموعد تعبئة نقاط الدورة الأولى قد اقترب، مما يعني ضرورة التنقل إلى المدرسة المركزية التي تبعد عن الدوار مسافة ثلاث ساعات مشيا على الأقدام، عبر مسالك وعرة ومنحدرات موحشة. أصبحت الرحلة المقبلة جزءاً من واجباتي، وتحدياً جديداً يتطلب التحضير والصبر، لكنني مدفوع بأمل إتمام هذه المرحلة بنجاح.
للحظة، تساءلت كيف سنتحمل هذه الرحلة الطويلة سيرًا، ولكن كرم أهل العرصة سبقنا كعادته؛ فقد أعدّوا لنا ثلاثة بغال متمرسة، تختال بصلابتها كما لو كانت تدرك أهمية الرحلة المقبلة. كانت رؤوسها مرفوعة وثابتة الخطى، تعكس شيئاً من أمان أهل الدوار وعنايتهم بنا.
في صباح يوم الرحلة، وقفت أمام البغل المخصص لي، وعيناي على لجامه المتدلي، أستوعب للمرة الأولى أنني سأكون مسؤولاً عن قيادته دون مرافق ممسكٍ باللجام. شعرت بمزيج من الترقب والخوف الخفي؛ لم أكن قد خضت هذا التحدي من قبل، لكن بدا لي كما لو أن البغل نفسه يتفهم ترددي، ثابتاً وصامداً في مكانه.
ارتقيت فوق ظهره بتأنٍّ، وبدأت أشد اللجام بخفة، متحسساً طريقنا بخطوات حذرة. كان شعور القيادة والتحكم غريباً لكنه مثير، وما زاد من عمق التجربة هو ذلك الإحساس بالمسؤولية الجديدة، كأنما تحملت جزءًا من التقاليد التي يعايشها سكان العرصة يومياً.
وفي تلك اللحظات الأولى من الرحلة، تأكد لي أن كل خطوة في هذا الدرب، وكل همسة مع الطبيعة، وكل خفقة قلب، ستخلّد في ذاكرتي حكاية، تستعد لأن تُروى وتُحكى.
سبقني الميلود ومحمد، فقد كانا معتادَيْن على تضاريس الجبل، وكنت أحاول جاهداً اللحاق بهما، لكن عندما هممت بالإسراع، تذكرت نصيحة الفقير محمد لنا: "عند المنحدرات، انزلوا عن الدابة لتأمنوا سيرها، ثم عاودوا الركوب عندما تستوي الدروب." كانت وصية حكيمة، فقررت الامتثال لها رغم رغبتي في الإسراع.
حين نزلت عن البغل في أحد المنحدرات، لمحت محمد والميلود يبتعدان شيئاً فشيئاً حتى اختفيا عن أنظاري خلف منعطف الطريق. رفعت بصري لأعاود الركوب، وصعدت بحذر على حجر لأصل إلى مستوى السرج، لكن قدمي زلت فجأة، ووجدت نفسي أهوي على الأرض، فزع البغل من سقوطي، فشدّ اللجام من يدي وأطلق قوائمه للريح هارباً.
بقيت مُسمّرا في مكاني، مذهولًا وعاجزًا عن الحركة، أراقب البغل وهو يبتعد سريعًا ويختفي تدريجيًا بين تلال الوادي، شعرت بغصة في حلقي، وداهمتني أفكار متشابكة، مزيج من الخوف والندم. كيف أفقد السيطرة في أول مغامرة لي؟! كيف أضيِّع أمانةَ وثقةَ أهل الدوار بي؟! لم أكن معتادًا على هذه التحديات الجبلية، وها أنا أواجهها وحدي، مع تجربة قاسية لم أتوقعها بهذا الثقل!
الفصل الثامن - "تيهٌ في الوادي ودِفء اللقاء"
لم أتمكن من استيعاب ما حدث. البغل الذي اعتمدت عليه في طريقي نحو المدرسة هرب مني في لحظة غفلة، تاركاً إياي واقفاً مذهولاً، متسائلاً عن سر هذه المغامرة التي فرضتها الظروف. لم أجد سوى الركض في الاتجاه الذي فرّ فيه، لكن الوادي المليء بالتلال والالتواءات عطل بوصلتي، وجعلني أفقد القدرة على تحديد وجهته. وسط حيرتي، بدأت أدور حول نفسي في محاولة عقيمة للبحث عنه.
تملّكني الذعر. صرخت بأعلى صوتي على الميلود ومحمد، آملاً أن يصلا لمساعدتي، ولكن بدلاً من سماع ردودهما، عادت إليّ أصداء صرخاتي من صدى الوادي، كأن الجبال نفسها كانت تهمس لي بأن أحداً لن يسمعني. شعرت بعزلة وبدأ الأمل يتسلل بعيداً.
في لحظة استسلام تام، ظهر رجل من خلف التلة، يجر خلفه بغلاً أعرفه جيداً... إنه هو! قلبي امتلأ بالفرح، لكن شيئاً من القلق تملكني أيضاً، خشيت أن يرفض الرجل تسليمي البغل بعد كل هذه المتاعب. اقترب مني وألقى السلام، وأخذ يتحدث بلغة الريف، وهي لغة كنت قد بدأت أفكّك رموزها تدريجياً. لم أفهم كل ما قاله، لكني تمكنت من التقاط سؤالٍ بين كلماته: "واش هذا البغل ديالك؟"
أجبته بالإيماء، فاسترسل الرجل في الحديث، وبدأ يوجه لي أسئلة، سألني عن مساري ومن أين أتيت وإلى أين أذهب. طمأنني قائلاً بابتسامة عفوية أن البغال، حتى وإن هربت، تعود إلى البيت بنفسها، وكأنها تعرف طريقها بحدسٍ خاص بها.
بكل رحابة صدر، ساعدني على الركوب مرة أخرى، وقدم لي نصائح وتقنيات بسيطة لتجنب تكرار ما حدث. شعرت بامتنان عميق تجاهه، شكرته بحرارة، ورحت أكمل طريقي بارتياح، وإن لم أستطع منع نفسي من توبيخ البغل على فعلته. بمرور اللحظات، وجدتني أتكلم معه كما لو كان يفهمني، حتى انتبهت لحالي وانفجرت ضاحكاً، لو رآني أحدهم فسيخال له أني قد جننت فعلاً وأصبحت أخاطب بغلاً!
ومع تتابع المسافات، بدأت ملامح مدرسة أولاد أحمد تظهر فوق التلة، وبدا لي بغلا محمد والميلود مربوطين بجانب السور، ينتظراني وكأنهما شهود صامتون على تأخري. ربطت بغلي بجانبهما بإحكام، عاقداً العزم على ألا يفرّ من جديد، وتوجهت نحو الإدارة، لأجد الزملاء ومديرنا السيد علي في انتظاري. ما أن حييتهم حتى أبدى محمد قلقه مستفسراً عن سبب التأخير، وسألني إن كنت قد ضللت الطريق، فاكتفيت بابتسامة وقلت له: "قصة طويلة يا محمد، سأرويها لك في طريق العودة."
بعد ذلك، زودنا المدير بدفاتر تنقيط المتعلمين، وهممت بترتيب "حصيرة النقاط" وورق الكربون والآلة الحاسبة أمامي، مستعداً لغوص طويل في الدفاتر. وبالرغم من البساطة الظاهرة لهذه المهمة مقارنة بما مررت به في رحلتي، شعرت بأن تعبئة النقاط أصبح تحدياً آخر. أتذكر اللحظة وأنا أسرد لكم هذه الأحداث، قصة بطل فيلم "وحيد في العالم" الذي كان إشعال شعلة نار بالنسبة له إنجازاً شبه مستحيل ويستحق العناء، بينما الآن بعد نجاته فإنه يستطيع بسهولة الحصول عليها بفضل قداحة بسيطة. نفس الأمر يتكرر معي الآن كلما هممت بتعبئة النقاط بمنظومة مسار المُعدة لهذا الغرض، المشهد يمر أمامي وكأنني أعيش محاكاة خاصة بي!
بعد ساعات من الغوص في الدفاتر وتعبئة النقاط، بدأت عيناي تثقلان وشعرت بالملل يدب في أوصالي. فجأة، جاء محمد حرازم (رحمة الله عليه)، صديقنا الذي كان يُعرف بيننا جميعاً بموهبته الاستثنائية في الطهي، ودعانا لتذوق حريرة دافئة كان قد أعدّها بمهارة لا تتقنها إلا أيدٍ خبيرة. لطالما كانت حريرة محمد ليست مجرد طبق، بل تحفة وطبقا فنيًّا يجمع بين النكهات العميقة والأعشاب العطرية، مملوءة بذلك الدفء الذي يسري في العروق كأنه يعيد للحياة نبضها.
جلسنا حول الوعاء الكبير، نتبادل الأحاديث ونستمتع برائحة الحريرة وهي تتصاعد لتختلط مع برد أولاد أحمد القاسي. شربت منها ملعقة بعد ملعقة، وللحظة شعرت وكأن هذا الطقس القاسي لم يعد يؤذيني، بل صار جزءاً من المتعة التي تجعل هذه اللحظة غالية في ذاكرتي، تلك الحريرة الدافئة التي تذيب كل تعب اليوم، وتجعل الوحدة والغربة أقل قسوة.
حين شارفنا على الانتهاء، بدأ قرص الشمس يختفي خلف التلال، ليرسم ظلالاً طويلة تكسو المكان بسكونٍ غامض. توجهنا نحو بغالنا، وربطنا أحزمتنا، استعداداً للعودة إلى الدوار. تلبدت السماء بغيومٍ داكنة، وبدا لنا الطريق كأنه شريط طويل من الظلام ينتظرنا ليختبر عزيمتنا من جديد.
تبادلنا نظرات قلقة، كأننا نحس بمغامرة جديدة تنتظرنا في الطريق. كان ثمة شيء في الهواء، إحساس مبهم بأن مغامرتنا لم تنته بعد، وأن ما ينتظرنا في طيّات الغموض القادم قد يفوق ما واجهناه.
الفصل التاسع - "مكالمة لم تكتمل .. إشارة ضائعة في عالم معزول !"
عدنا نسرع الخطى على صهوات البغال، نسابق الريح، ونتجاوز ما حولنا بخطواتٍ واثقةٍ، إذ كان الوقت يداهمنا ونزول الليل يتربص بنا. كان نور النهار كأنّه الخيط الذي يربطنا بالطريق، فلا مجال للخطأ ولا للتأخير؛ إذ دون هذا النور سنفقد المسار ونتيه في قلب الظلام.
في هذه الرحلة، وجدت نفسي فجأةً في المقدمة. شعرت بشجاعة لم أختبرها من قبل، وكأنَّ كل ما مررت به من تجارب جعلني أصلب عوداً وأقوى عزيمةً. لم يعد الخوف يُرهبني كما في السابق، بل صار يدفعني للأمام، وكأن كل خطوة تحكي قصةَ مواجهةٍ جديدة، قصةَ انتصارٍ على تردد الأمس.
في جُنح الظلام، وصلنا أخيراً إلى الدوار، وقد أرشدنا في تلك اللحظات الأخيرة نور القمر، الذي أطلّ من بين الغيوم ليكون دليلنا. كان ضوؤه كيدٍ تَربتُ على كتفينا، يُعيد لنا الثقة والهدوء بعد كل ما واجهناه.
مع مرور ما تبقّى من أيام الفصل الدراسي بسرعة، حلّ وقت العودة إلى الديار لقضاء عطلة نهاية الدورة الأولى. كانت رحلة العودة هذه مختلفة تمامًا عن تلك المرة التي خضتها وحيدًا، في ظروف قاسية وطقس مضطرب، محاطًا بالوحشة والغموض. أما الآن، فنحن نعود جماعة، في أجواء مشمسة، والوديان خالية من المياه، كأنّها تودعنا بلطف في طريقنا نحو الراحة.
مرت العطلة كلمح البصر، أيامها القليلة مرّت كالنسيم. خلالها بدأت بوادر الاتصال بالهواتف المحمولة في الظهور، وقررتُ أن أقتني أول هاتف محمول في حياتي، كان حجمه أشبه بطوب من الحجارة ووزنه كأنّه ثِقل عالق في يدي؛ تبدو الأزرار وكأنها مصممة للأيدي الثقيلة، والشاشة تضيء كالمصباح الخافت. ومع أنني، كالجميع في تلك الفترة، لم أكن على دراية بآلية عمل هذه الأجهزة العجيبة، فقد توهمت بأنّ الاتصال يمكن إجراؤه من أي مكان. كنت أعتقد أنّه سيكون بإمكاني التواصل مع الأهل والأصدقاء من فراشي بغرفة المسجد، دون أن أضطر لتسلّق الجبال أو السير بين الوديان لفعل ذلك!
ما إن وصلتُ إلى الدوار ودخلتُ غرفتي رفقة الميلود، حتى سارعت إلى إخراج هاتفي الجديد بحماسٍ غامر. كان هذا الجهاز بالنسبة لي نافذةً ستمكنني من الاطمئنان على الأهل والأحباب بشكل يومي، فقد كنت أحفظه في منديل رطب بحرصٍ، كما لو أنني أحمل كنزًا ثمينًا، وأخرجته منه وكلي فرحة كفرحة طفل صغير بلعبة جديدة.
لكن سرعان ما تحولت تلك الفرحة إلى دهشة كبيرة، ثم إلى صدمة حين لاحظت أن الهاتف لا يلتقط أية إشارة! تَملكني مزيجٌ من الاستياء والتحدي، فخرجت من الغرفة عازمًا على العثور على الإشارة بأية وسيلة، وكأنني في مهمةٍ سرية! بدأت أتجول في كل زاوية من الدوار، رافعًا الهاتف بكل الاتجاهات كما لو أنني ألوّح براية بيضاء طلبًا للمساعدة. مرة أرفعه نحو السماء، وأخرى أضعه عند أذني وكأنني أسمع همسات خَفِيَّة من الأثير، وأخطو فوق الصخور وكأنني أتحسس طريق كنزٍ مدفون. مر بعض سكان الدوار بجانبي متسائلين عن أمري، فتظاهرت كأنني "مهووسٌ علمي" يقوم بتجربة غامضة!
وبينما كنت أقف فوق أعلى نقطة أستطيع الوصول إليها، دون جدوى، أدركت أنه مهما جُبتُ الأرجاء، فإن هذا "الاختراع الثوري" لن يقدم لي أكثر من شاشة صامتة وشبكة مفقودة، ليصبح الدوار هو الفائز في هذه الجولة.
قضيتُ الليلة في حزنٍ كبير، أشعر بخيبة أمل من انقطاعي التام عن العالم الذي تركته وراء جبال الدوار.
وفي صباح اليوم التالي، بينما كنت جالسًا أرقُب الوادي الممتد أمامي، أفكر في كل ما مررت به هنا، شعرت بيدٍ توضع على كتفي. استدرتُ لأجد "عبد الصمد"، رجلًا قد أعادته سنوات الهجرة إلى الديار الإسبانية، وها هو يعود إلى الدوار بعد غياب طويل.
ابتسم عبد الصمد وسألني بصوت يحمل الحنين: "كيف حالك أستاذي، وكيف حال ابن أخي عماد؟" يقصد بذلك أحد التلاميذ الذين أدرّسهم.
أجبته بابتسامة مطمئنة: "ابنك من المجتهدين، ما شاء الله، يبذل جهدًا كبيرًا في دراسته."
وبينما كنت أتحدث معه، لمحت في خصره جهاز هاتف خلوي، يشبه جهازي، لكنه بدا أكثر ثقة باستخدامه. سألته بفضول: "سيدي، هل يُمكن لهذا الهاتف أن يلتقط الإشارة هنا في الدوار؟"
ضحك عبد الصمد وأجابني: "الإشارة هنا نادرة مثل الماء في الصحراء! فقط عندما كنت في قرية تارگيست القريبة تمكن الهاتف من التقاط الإشارة. أما هنا، فإن أردت التواصل، عليك أن تتسلق ذلك الجبل المقابل لنا، إنه شديد الانحدار، كأنه جدارٌ عالٍ من الصخر، آنذاك ستتمكن من التقاط إشارة ضعيفة قادمة من هناك، لكنها ستفي بالغرض"
نظرتُ إلى الجبل بِحيرةٍ وتأمل، كان شاهقًا وصعب المنال، بزاوية حادة تجعله يبدو كجدار يفصلني عن العالم الخارجي. تأملت تفاصيله ومنحدراته القاسية، والصخور المنتشرة على سفوحه. ورغم كل شيء، شعرت برغبة قوية، رغبة واحدة فقط: أن أسمع صوت أمي وأبي، حتى وإن كان ذلك يتطلب صعود ذلك الجبل الوعر.
لم أستطع الانتظار أكثر، قررتُ أن يكون المساء هو موعدي مع الجبل، لا مجال للتأجيل، رغبة قوية اندفعت داخلي كي أصل إلى القمة وأتمكن من الاتصال بأهلي. ارتديتُ حذائي الرياضيّ، وحملتُ هاتفي الثقيل بين يديّ، متجهًا نحو تلك القمة، وكأنها بابٌ بيني وبين العالم الخارجي.
بدأت بالصعود، وكلما ارتفعت، تضاعف إحساسي بالبعد عن الأرض التي اعتدت عليها. سرعان ما داهمني اللهاث، وشعرت بتسارع أنفاسي، وكأن الهواء يصبح أقل كلما صعدت. قدماي تنغرسان في الحجارة الصغيرة، ويديّ تمسكان بالصخور القاسية كمن يحاول الإمساك بمخرج أمل. شعرت بثقل هاتفي، ليس وزنه فقط، بل حتى رغبة الوصول، كأن كليهما يتحدان ليضيفا حملًا إضافيًا على كتفي.
بعد عناء طويل، وجدت نفسي فوق القمة، وتوقف كل شيء للحظة، حتى أنفاسي نفسها. كنت في مكانٍ لا أعتقد أني سبق وأن وقفت فيه. من هذا العلو الشاهق، بدت المنازل الصغيرة وكأنها قطع نرد ملونة تتناثر بين الحقول، وقرية بورد، التي لطالما عانيت الأمرَّين للوصول إليها، تتراءى لي قريبة من هنا. رأيت الوادي يلتف حول المنازل والحقول، وكأنّه شريان حياة يحمل سرّ كلّ شيء هنا.
ووسط اندهاشي، لاحظت شيئًا آخر: الإشارة! رغم ضعفها، كانت موجودة، علامة وحيدة، كأنها شبحٌ صغير يظهر ليُبيِّن أن هناك من ينتظرني على الطرف الآخر. شعرت بقلبي ينبض بقوة، من فرط التوتر نسيت رقم هاتف منزلنا بتازة! حاولت استجماع ذاكرتي، وبعد لحظات تذكرت الرقم وأسرعت بالاتصال.
رنّ الهاتف، وفجأة سمعتُ صوت أمي من الجانب الآخر. كان صوتها، رغم البعد، أدفأ شيء شعرت به على الإطلاق.
"أمي، أنا هنا... اشتقت إليكِ كثيرًا."
ردت بصوتٍ فيه من الدهشة والفرح: "ولدي مصطفى! أين أنت؟ هل عدتَ لتازة؟!"
وقبل أن أتمكن من الرد، انطفأ الهاتف بين يدي، كأنه شمع ذاب قبل أن أنتهي من أمنيتي. أدركت أن البطارية لم تحتمل سوى بضع كلمات، بعد أن شحنتها آخر مرة في تازة منذ أيام.
نظرت إلى الهاتف بين يديّ، بدأت ألوم نفسي بشدة: "ما كان علي تشغيل الألعاب بالهاتف بكثرة .. ها قد نفذت البطارية!" .. والحقيقة أن هاتفي كانت به لعبة وحيدة هي لعبة الأفعى، التي تذكرني دوما بالتواء وادي العرصة والوديان المجاورة!
لكن الحقيقة الأهم التي شغلت بالي الآن، هي أنَّ لا كهرباء في الدوار!! وأمام هذا الجبل المهيب، سأحتاج إلى الكثير من القوة لأعيد التجربة.
الفصل العاشر - "بوادر الفرج وملاذ جديد على مرمى حجر"
تسللت خيبة ثقيلة إلى نفسي وأنا أعود أدراجي من قمة الجبل، ذلك المكان الشاهق الذي تسلقتُه بعزم أملاً في التواصل مع من أفتقدهم، وبكل المشقة والعناء، كان أملي معلقاً على إشارة واهية، وجدتني أرجع الآن بلا نداء ولا صوت.
بعد بضعة أيام، قررت الذهاب مع الفقير محمد إلى سوق بورد، حيث يلتقي أهل الجبل ببعضهم في مشهد مشحون بحكايات وأخبار الأهل والأحباب. هناك اشتريت شاحناً يمكن وصله ببطاريات ضخمة، تملكني إحساس غريب بالفرح لهذه الفكرة البسيطة، وكأنها بريق أمل جديد في عتمة هذه العزلة.
تلك البطاريات، عجيبة في حجمها وثقلها، يربطها أهل الدوار مع قنينات الغاز فوق ظهور البغال، ويدفعونها صعوداً ونزولاً في رحلة شاقة. أتأمل هذه البطاريات وأتساءل كم من مشقة يبذلها أهل الدوار كي يشحنوا بضعة أيام من الطاقة، لتضيء حياتهم القصيرة بتلك اللمبات المتواضعة. أرى في عيونهم إصراراً على استئناف العيش وسط هذا الواقع القاسي، يجددون طاقتهم مثلما يجددون هذه البطاريات.
ومنذ تلك اللحظة، لم أعد أكِلّ ولا أملّ من صعود الجبل، كان ذلك الجبل قاسيًا، لكنه صار جسراً بيني وبين عالمي القديم. وكم يسرني أن عبد الرزاق، تلميذي النجيب، أصر على مرافقتي في كل رحلة، إذ كان يستمتع بشغفي ويشاركني ابتسامة بريئة حينما نصل إلى القمة، فأمسك الهاتف بلهفة وكأنه تذكرة اتصال مع عالمي الذي تركته هناك.
في تلك اللحظات، ومع توالي الأيام، أدركت أن هذه "الإشارة" أصبحت نافذتي الصغيرة، صارت مثل جرعة سحرية تخفف من وطأة الوحدة وتجدد داخلي صبرًا لا ينضب، فلا يقف الجبل عائقاً، بل يصبح ملاذي وأملي، علّي أسمع من بعيد صوتاً، ولو مرة واحدة، يُبقيني متصلاً بأهلي وأحبتي في تلك الأيام العصيبة.
في صباح أحد الأيام، أيقظني هدير غير مألوف، بدا وكأنه آتٍ من شاحنة ضخمة تخترق سكون الدوار. تملكتني الدهشة وهرعت إلى نافذة غرفتي في المسجد لأطلّ منها. كانت شاحنة ضخمة محملة بالآجر وأكياس الأسمنت، تتحرك ببطء شديد على الطريق الترابي، فأسرعت بالخروج وركضت خلفها، يراودني فضول عارم لفهم ما يجري.
توقفت الشاحنة عند مسلك وعر، وبدا أن البضائع سيتم إنزالها هناك. سمعت أحد العمال يقول بصوت مرتفع: "سنتركها هنا، ونكمل نقلها إلى المدرسة بالدواب." بدا الأمر غريباً للوهلة الأولى، لكن ما لبث استغرابي أن تلاشى عندما رأيت السيد علي، مديرنا، ينزل من الشاحنة برفقة رجل آخر بملامح دقيقة وملابس مرتبة.
اقتربت من السيد علي، والتفت نحوي بابتسامة عريضة قائلاً: "أهلاً مصطفى! كنت أعلم أنك ستكون أول من يطلّ ليعرف ما يحدث." فضحكت وقلت: "طبعاً، منظر الشاحنة هنا كافٍ ليوقظ أهل الدوار بأكمله!"
ابتسم، ثم تابع قائلاً بحماس: "الخبر السار هو أننا قررنا أخيراً بناء حجرة سكنية خاصة لك وللأساتذة في المدرسة! المهندس هنا سيشرف على المشروع، وستكون لك غرفة مريحة قريباً."
تملكني شعور غامر بالفرح؛ أخيراً أزاحوا عني عبء السكن في المسجد البارد، أخيراً سأجد مكاناً لي في هذه الجبال أشعر فيه ببعض الراحة والاستقرار.
دون تردد، هرعت لمساعدة العمال في إنزال السلع، فأخذنا نتعاون على حمل أكياس الأسمنت الثقيلة ووضع الآجر في أكوام مرتبة. شعرت بأن الجهد المبذول يعكس رغبة صادقة لدي في المساهمة بهذا البناء الجديد، وكأنني أريد أن أرى تلك الحجرة الجديدة تأخذ شكلها أمامي، كتجسيد فعلي لأمل جديد في الاستقرار.
بعد انتهائنا من حمل السلع، تقدّم السيد علي وقدّمنا إلى السيد عبد الإلاه ورفيقه السيد إدريس، وهما من نواحي مدينة تاونات، حسبما أخبرني. تبادلنا التحيات، وكان من الواضح على الرجلين أنهما خبيران في هذا المجال، إذ أشار السيد علي أنهما سبق لهما بناء مساكن مماثلة في جهات متفرقة من إقليم الحسيمة.
لم أتمالك نفسي من طرح الأسئلة على السيد عبد الإلاه، كان بداخلي شوق دفين لمعرفة كل تفاصيل هذه الورشة. قلت له بابتسامة متلهفة: "كم ستستغرق الأشغال، برأيك؟ هل يمكننا السكن هنا قريباً؟"
نظر إلي السيد عبد الإلاه بابتسامة ودية، ربما التقط حماسي من طريقة حديثي، فقال: "لا تقلق يا أستاذ، الأمور ستسير بسرعة بإذن الله. إذا سارت الأمور كما هو مخطط، ربما سننتهي في غضون أسابيع قليلة."
أجبته بصوت يفيض حماساً، رغم محاولتي إخفاء مشاعري قليلاً: "إذن سأتمكن من مغادرة غرفتي في المسجد قريباً، هذا خبر رائع!" ضحك السيد عبد الإلاه وربت على كتفي قائلاً: "واضح أن غرفة المسجد لم تكن مريحة كثيراً، لكنك ستنعم بالراحة قريباً، بإذن الله."
الفصل الحادي عشر - "ملاذٌ من طينٍ وأمل: حكاية بناء بتضامن الأيادي والقلوب"
مرّت الأيام سريعًا وواصل العاملان عبد الإله وإدريس بناء السكن المنتظر، حيث نصبا خيمةً مؤقتة قرب موقع العمل. في أوّل فرصة، رأيت فيها خيمتهما، فمازحتهما قائلًا بابتسامة: "أهلاً بأصحاب الخيمة الفاخرة!" فضحكا بروح مرحة، وأصبح العمل محاطًا بالضحكات والمزاح، فتحولت أوقات العمل إلى مساحة نتبادل فيها القصص والمواقف، مما جعل لكل يوم طابعًا خاصًا.
ومع مرور الأيام، تزايدت أواصر الصداقة، وكان كل لقاء على الطعام يثري حديثنا بحكايات من الحياة الريفية في تاونات.
شيئًا فشيئًا، بدأ السكن الجديد يأخذ شكله أمام أعيننا، حجراً بعد حجر، وكأن الحلم ينبعث بين الجدران.
وذات صباح، اكتملت معالم البناء، وبإشراقة الشمس بدت ملامح السكن الجديد واضحة، فيما كان قلبي يخفق بشدة بينما أتفحصه. غرفة صغيرة، بلا رفاهية، لكنها دافئة بما يكفي لتكون ملاذًا لنا أنا والميلود. كانت لحظة مميزة، فكل جدار كأنما يحمل في طياته تفاصيل حلمنا المشترك. غمرتنا سعادة غامرة، فهذه الغرفة الجديدة كانت كأنها جزء من روحنا المتطلعة لمكان أكثر راحة وسكينة.
بعد أيام، حضر المدير السيد علي، بصحبة أعضاء اللجنة الإقليمية، لتسليمنا المفاتيح والاطلاع على جاهزية المكان. كنا ننتظر هذه اللحظة بفارغ الصبر، إذ تمثل لنا الانتقال من غرفة المسجد إلى هذا السكن نوعًا من الحرية التي طالما حلمنا بها.
لكن، وبينما نحن نتهيأ للاستقرار، فاجأنا السيد علي بخبرٍ لم يكن في الحسبان؛ فقد أبلغنا أن المديرية قررت إرسال أستاذين جديدين ليعملا معنا في العرصة، لكن الغرفة الوحيدة في السكن الجديد لن تسعنا جميعًا. كانت كلماته كوقع الصاعقة؛ فكيف لهذا المكان الصغير أن يستوعب أربعة أساتذة؟!
ثم تابع المدير مبتسمًا، وأكد بفخر أن هذه الزيادة في عدد التلاميذ جاءت كنتاج للجهود التي بذلناها؛ فأصبح الأهالي من الدواوير المجاورة يسعون لتسجيل أبنائهم في مدرستنا، رغم بُعد المسافة. كان حديثه محفزًا، إذ جعلنا نشعر بأن جهودنا أثمرت في بناء سمعة طيبة للمدرسة، ما زاد من إقبال الأهالي.
وبينما نحن في خضم الحديث، لمحت الفقير محمد يتفحص السكن الجديد من بعيد، واقتربت منه مستفسرًا عمّا يشغل باله. فابتسم مطمئنًا وقال بنبرة واثقة: "لا تقلق، الحل بسيط. هناك مساحة خلفية؛ سنضيف جدارين لتكتمل الغرفة الثانية." استوقفني اقتراحه فسألته عن الباب والسقف، فأجاب بكل ثقة: "أهل الدوار مستعدون للمساعدة. سنفتح بابًا يصل بين الغرفتين، أما السقف فسنستخدم ألواحًا خشبية مع طبقة طينية مُحكمة، فهي كفيلة بحمايتكم من المطر مهما اشتدّ.
"تملكني شعور بالارتياح لمبادرته هذه، وعرفتُ أنني بين أناس يعتبرون التعاون سبيلًا للراحة والطمأنينة. بين حديثه وتفاصيل خطته، تولّد داخلي إحساسٌ عميق بالامتنان تجاه هذا التكاثف الذي جمعنا، حيث الجميع متضامنون لتأمين سكنٍ يكفينا.
مع انتهاء حديث الفقير محمد، أحسست بحماسة جديدة تتملكني. لم يعد هذا السكن مجرد مأوى، بل بات رمزًا للتضامن والتآزر بين أهل الدوار. لم نكن قد انتهينا بعد، لكن بدا لي أننا نخطو نحو مغامرة جديدة، توحدنا فيها روح العمل الجماعي والتعاون.
في تلك اللحظة، نظرت إلى العمال وإلى الفقير محمد، وكأن بيننا اتفاقًا صامتًا؛ هذه الأرض ستشهد عملًا جماعيًا يجعل من هذا البناء البسيط ملاذًا يسعنا جميعًا. وفي أعماقي، شعرت أنني أمام رحلة تضامنٍ فريدة.
الفصل الثاني عشر - "عرسٌ على ضوء النجوم: احتفال بالتضامن والإنجاز"
في صباح اليوم التالي، لم يكن الصمت حليف هذا المكان بعد الآن. الدوار بأكمله بدا كخلية نحل، تطنّ بأصوات التعاون والحماس. كان أهل الدوار قد استجابوا للنداء دون تردد، بل على العكس، أظنهم انتظروا هذه اللحظة ليعبروا عن روحهم الجماعية. وبينما بدأت الشمس تتسلل ببطء من وراء الجبال، تحول محيط المدرسة إلى ساحة عمل، حيث كل واحد يحمل أداة، أو ينقل حجراً، أو يهمّ بالمساعدة بطريقته.
الوجوه التي اعتدت رؤيتها بصمت واحترام، كشفت عن طاقة لا حدود لها اليوم. هنا شاب صغير يدفع بعربة يدوية محملة بالأحجار والطوب، وهناك شيخ يحمل خشبة ضخمة على كتفه، مغموراً بحب التضحية. الألواح الخشبية التي كانت جذوع أشجار ضخمة تبدو جاهزة لتكون سقفنا الذي سيحمينا. همس لي الميلود وهو ينظر إلى الألواح بامتنان: "هكذا تُبنى الأحلام، بروح أهل الدوار وإصرارهم".
لكن لم يكن أحد يضاهي "دزاير" قوةً وبراعةً. هو حسن، الرجل ذو القبضة الحديدية، الذي عُرف بهذه الكنية، ويمتاز بقوة جسدية لا تخطئها العين. من أوكلت إليه مهمة فتح باب السكن الجديد، كنت أراه يحفر الطوب وكأنه يفتح باب أمل جديد لنا. رأيته يرص الحجارة والطوب بإتقان، ينسق بينها كإبداعه للوحة فنية. أما الباب، فقد أخرجه من مكانه في الجدار ببراعة لم نشهد لها مثيل، فيداه تروي حكاية منسوجة بتفاصيل الصبر والمهارة.
وكلما مرّت الساعات، ازدادت وتيرة العمل قوة، فقد صار الأمل وقودًا يحرك الجميع.
لم يمض أسبوع حتى اكتمل البيت وأصبح منسجمًا مع السكن القديم. باتت الغرفتان متصلتين، وأصبح البيت ينبض بروح جديدة، كل زاوية فيه تحمل بصمة أهل الدوار وجهودهم الصادقة. ولكن الميلود لم يكن ليترك الفرصة تمر دون أن يضيف لمسته الخاصة؛ فقد رأيته يستعد ليصعد إلى السطح، يحمل بين يديه خليط الطين والماء، وعيناه تلمعان بحماسة. قال لي بابتسامة يملؤها الحنين: "هكذا كنا نفعلها في بادية ميسور، إنها تقنية الأجداد… ستبقى الحجارة دافئة شتاءً وباردة صيفًا ".
كانت حركاته واثقة، ويداه تداعبان السقف بخبرة عتيقة، أحيى بها طقوسًا قديمة حملها معه من قريته. وبينما كان يعمل، انتشرت رائحة الطين المبلل، تعبق في الهواء، وتمنح البيت نكهة الأرض، وكأنه جزء من الجبل الذي يحتضنه.
وهكذا، مع غروب شمس اليوم الأخير، كنا نقف أمام بيتنا الجديد، مشبعين بأحاسيس الفخر والتآزر.
لم يكن من الممكن أن يمر هذا اليوم العظيم دون احتفال. فبعد كل الجهد الذي بذلناه، اجتمع أهل الدوار حول المدرسة في مهرجان صغير من الألفة والبهجة. تزينت السماء بلمعان النجوم، فيما بدأ الدوار بأكمله يتحول إلى حكاية من ضوء وسمر، تعبق برائحة الأطباق التقليدية التي أُعدت بعناية لهذه المناسبة.
كان الشباب من أهل الدوار يتنقلون بين الأواني الكبيرة، يطبخون الكسكس بمهارة، والبخار يتصاعد في ليل الريف الهادئ، ليملأ الأرجاء بنكهة الشعير والتوابل. على جانب آخر، كان البعض منهم يجهزون الأطباق ويشرفون على ترتيب الساحة، واضعين جذوع الأشجار كأماكن للجلوس. في تلك الأثناء، جاء الفقير محمد ومعه إبريق الشاي المميز، وأخذ يعد الشاي بطقوس تقليدية أبهرت الجميع، وصوت انسكاب الشاي في الكؤوس كان يرافقه ضحكات الصغار وكلام الكبار.
أخذت الأحاديث تتناثر في الهواء كما يتناثر الدخان من نار الطهي، وكل جملة كانت تكشف عن قصص وذكريات، وكان حسن دزاير، يروي لنا قصصًا عن مغامراته في الجبال، بينما نحن نحتسي الشاي ونستمع بحماسة.
وعندما بدأت الأطباق تُقدم، جلسنا جميعًا في دائرة، نتشارك الطعام كعائلة واحدة كبيرة. لم يكن الطعام مجرد وجبة، بل كان طقوسًا من الوفاء، طقوسًا تجسدت في كل لقمة نتناولها معًا. الأيدي تمتد، والضحكات تتعالى.
تحت أضواء القناديل، احتفلنا بانتصارٍ صغير على تحديات الجبال. عُرسٌ تحت ضوء النجوم، يعلن أن هذه الأرض ستظل حاضنة لأحلامنا، وأن كل ما بنيناه هنا من تضامن وإرادة هو بداية لأشياء أكبر في هذه القرية النائية.
كان الليل يسدل ستاره، لكن في قلوبنا شعلة لا تنطفئ، شعلة جماعية أضاءت المكان بوهج الفرح.
الفصل الثالث عشر - "بين الأمس واليوم، ذكرى الوفاء وألم الغياب"
مع أول خيوط الفجر، بدأنا نستعد لمغادرة غرفة المسجد نحو السكن الجديد. كانت الحماسة تملأ قلبي، فأنا أعلم أنني على وشك الانطلاق في مغامرة جديدة. لكن، ومع كل خطوة تقترب بي نحو الرحيل، شعرت بشيء غريب يشدني إلى الوراء، إلى تلك الغرفة الصغيرة التي احتضنتني وسط ليل القرية وسكونها، حيث قضيت ليالٍ باردة، لكن دافئة بذكرياتها. كانت الغرفة تشدني إليها كأنها تقول: "ستبقى جزءًا من هنا"، رغم أنني كنت متشوقاً للرحيل نحو حياة أكثر راحة.
وصلنا أخيرًا إلى السكن الجديد، كانت كل زاوية فيه تردد صدى الأيادي المتضامنة التي بَنته، ومنحتنا ملاذًا. وبينما أنا منشغل في ترتيب أغراضنا، وصل الزميلان الجديدان مجيد وخالد.
كان مجيد، ابن منطقة إگزناية، شخصاً طيباً وودوداً إلى أبعد الحدود، وجهه يشع دفئًا وألفة، خِلته بيننا منذ سنوات. كان يتحدث الريفية بطلاقة، صوته يخترق المكان بنغمة تنتمي لهذه الجبال ولهذه الأرض. بنظرة واحدة، أدركت أن مجيد لا يجلب معه مجرد زميلٍ جديد، بل يضيف لنا مسحة من الانسجام والأصالة، كجزء من تضاريس هذه المنطقة.
أما خالد، القادم من مدينة بركان، فقد كان عالمًا بحد ذاته. يمتلك روحًا مرحة تجمع بين الموسيقى والكوميديا، كان فنانًا بالفطرة، لا تفارق الابتسامة وجهه، ملامحه تحمل كل قصص الضحك التي يخبئها لليالي القادمة. بصوته العذب وحِسه الفكاهي، أدركت أن حضوره سيمنحنا جرعة خاصة من الأمل والتفاؤل وسط هذه الجبال.
جلست أتأمل الزميلين الجديدين، وأحسست بشعور لا يوصف. كان حلولهما هنا كفصل جديد من حكايتنا، سينثر بهجة خاصة ونكهة فريدة بيننا، وكأننا ننتظر سلسلة من الحكايات والمواقف التي ستجمعنا معهما.
اقتسمنا الغرفتين بشكل سريع، وبدأ كل واحد منا يرتب أغراضه في زوايا الغرفة. كنت قد جلبت معي لوازم بسيطة، وشيئًا من دفء بيتنا في تازة. تذكرت آخر مرة زرت فيها البيت، حين كانت أمي تحرص، كعادتها، على تجهيز كل شيءٍ بدقة وعناية. خصصت لي بعض الستائر الجميلة وأغطية مصنوعة بيديها، تزينت بألوان دافئة وكأنها جزءٌ من حنانها الذي أرادت أن يُحيط بي في هذا المكان البعيد.
أمي تهتم كثيرًا بالنظام، حتى أنها علمتني كيف أرتب كل زاوية بدقة وأجعل كل غرض له مكانه الخاص. وما إن شرعت في تعليق الستائر وترتيب الأغطية حتى شعرت بشيء من الراحة، وكأن المكان يحمل شيئاً من روحها ودفء بيتنا.
لكن، لم تكن تلك اللمسات المادية وحدها ما جلبته معي؛ فقد حرصت أمي على أن تُعلمني بعض وصفاتها المميزة التي كانت تطهوها لنا بمهارة.
بينما كنت أضع اللمسات الأخيرة على الغرفة، أخذت أتخيل طعم أطباقها الشهية، عازماً على أن أعد بعضًا منها في هذه الجبال، وكأنها جزءٌ من تواصل روحي بيني وبين بيتي الذي غادرته.
أثناء ترتيبي للأغراض، وقعت عيناي على كومة من الكتب التي حملتها معي بعناية من تازة، فقد كانت هدية ثمينة من والدي. أذكر جيداً كلماته حين منحني إياها، قال لي وهو يربت على كتفي بابتسامة دافئة: "يا بني، البيت بدون كتب لا حياة فيه، ينبغي أن تكون في كل بيت مكتبة؛ فالكتب تمنحنا عمقاً في الحياة ونوراً على الدروب ".
والدي كان شغوفاً بالقراءة، ودائماً ما كان يحثني على قراءة كل ما يقع بين يدي، ويرى في الكتب قوة غير عادية، تصنع منا أشخاصاً أفضل. حين وضعت تلك الكتب على رفٍّ في زاوية الغرفة، شعرت كأن والدي حاضر معي، كأن روحه تراقبني وتساندني في هذه الرحلة.
كنت أراه يجلس لساعاتٍ طويلة، محاطاً بكتبٍ تتنوع بين دواوين الشعر وكتب الأدب. كان شغوفاً بالكلمات، حيث يجد في سطورها ملاذاً وسكينةً لا يدركها سوانا. لم أكن أفهم وقتها، عمق ما كان يفعله، ولم أدرك تماماً كيف لهذه الكتب، ولأبي، أن يشكلوا تلك الزاوية الهادئة في منزلنا، حيث كنا نحتمي بالكتب والشعر، كأنهما درع يحمينا من ضجيج الحياة.
والآن، وأنا بعيدٌ عن حضن أبي وتحت سماءٍ لا تشبه سماء بيتنا، شعرت بثقل المسؤولية والأثر الكبير الذي تركه في حياتي. باتت كلماته تدقُّ في أعماقي كنبضٍ لا ينطفئ: "الشعر يا بني هو لغة القلوب، والكتب هي زادنا حين تعصف بنا الأيام." أخذت أنظر إلى الكتب أمامي، كأنني أرى فيها عينيه تتابعني من بين الصفحات، تحثني على الصمود.
-لم أكن أدرك بالأمس، قبل ست وعشرين سنة، أيام كنت شابا يافعا بالعرصة، ما أدركته اليوم بعد مرور أربع سنوات من رحيل أبي عن هذا العالم، فهو لم يكن فقط والداً أو معلماً؛ بل كان الضوء الذي ينير طريقي، ففكرة غيابه، تشعرني دوما بغصة في حلقي، ودموعٍ ساخنة تخنقني، كأنها تحاول أن تملأ الفجوة التي خلفها رحيله المفاجئ –
رحمك الله أبي وأسكنك فسيح جناته.
الفصل الرابع عشر - "عصا الشجاعة في مواجهة الذئاب"
استقرت بنا الأيام سريعًا في السكن الجديد، فقد طوّع المكان نفسه ليحتضن أحلامنا وأيامنا. كنا نحيا فيه بوئام تام، نعيش تفاصيل الحياة اليومية بعمق وسلاسة. مع كل يوم يمر، كان بيننا تناغم يتجسد في العمل والجد والاجتهاد مع تلاميذنا، كنا نزرع بذور المعرفة ونرى غراسها يكبر أمام أعيننا. كانت لحظات مليئة بالبساطة، لكنها تُضفي علينا دفئًا عميقًا، وتمنحنا شعورًا لا يُضاهى بالرضا.
لكن سرعان ما وجدت نفسي وحيدًا في السكن، حيث غادر الرفاق نحو مدينة الحسيمة لاجتياز امتحاناتهم المهنية. كانوا قد جمعوا أمتعتهم وغادروا مبكرًا، وتركوني في سكون الوحدة الذي بدا مختلفًا عن أي شعور اعتدته في هذا المكان.
وفجأة جاءت اللحظة التي بدّدت هذا السكون، وأعادتني إلى واقع العرصة القاسي. بينما كنت أجلس وحيدا أرقب الوادي كعادتي، علمت من تلميذي عبد الرزاق بخبر هجوم الذئاب الشرس على أمرزگيو، صاحب الدكان. انتشرت القصة كالنار في الهشيم، ذهبت رفقة عبد الرزاق لزيارته، فأثارت صورته وهو يضع الضمادات على يده اليمنى القلق في نفسي. كان الجميع يتحدثون عن الحادثة، عن الشجاعة التي أظهرها في مواجهتهم، وعن الخوف الذي سرى في نفوس أهل القرية، ذلك الخوف الذي يعرف كيف يتسلل في أعماقهم.
حين عدت إلى نفسي، وجدتني غارقًا في أفكاري، أفكر في طريق عودتي إلى تازة، الطريق الذي كنت أنوي سلوكه نهاية الأسبوع. تساءلت، هل سأجرؤ على السير فيه وحدي؟ مع غياب الرفاق، شعرت بوحدة ثقيلة في حضرة هذا القرار. كان الطريق عادةً محفوفًا بعوائق الوادي، ولكنه هذه المرة يحمل تهديدًا آخر، تهديد الذئاب التي تجوب تلك الأراضي وكأنها تتربص بكل خطوة.
تراءت أمامي مشاهد العودة، تلك اللحظات التي سأسلك فيها الطريق الضيق والمتعرج. تخيلت الظلال التي قد ترتسم في الليل على الجدران الصخرية، وعواء الذئاب البعيد الذي قد يتسلل إلى أذني، فتبدأ نبضات قلبي بالتسارع. كان الخوف كعادته، يتسلل كضيف غير مرغوب فيه، ولكن العزم كان أقوى.
حين استسلمتُ لتلك الأفكار، وجدتُني أعود بذاكرتي إلى الوراء، إلى تلك اللحظات التي كنت قد ظننت فيها أنني تغلبتُ على مخاوفي. نعم، كم كانت تلك الأيام صعبة، وكم شعرتُ حينها بأنني قد نجحتُ في طرد الخوف من قلبي. اعتقدتُ أنني قد صرتُ أقوى، أن خطواتي على حافة الوادي لم تعد تتردد، وأن صوت الرياح العاصفة في الجبال لم يعد يؤثر بي. لكن ها هو الخوف يعود ليزحف مرة أخرى، ووجد طريقًا مخفيًّا للولوج إلى نفسي.
ربما كانت هذه المخاوف جزءًا لا يتجزأ من حياتي في تلك الجبال، تذكيرًا مستمرًا لي بأن الأمان الذي كنت أبحث عنه لا يزال سرابًا بعيدًا. كان قلبي يتسارع كلما فكرتُ في الذئاب التي تجوب تلك الأراضي، في العتمة التي تملأ الفيافي، وفي الوحدة التي ستكون رفيقي الوحيد في رحلة العودة. كم هو غريب ذلك الشعور حينما تظن أنك انتصرت، ثم تكتشف أنك تقف على نفس حافة الخوف، بنفس التردد، وبذات الأسئلة التي لم تجد لها إجابة!
رغم كل شيء، كان هناك شيء في داخلي يرفض الاستسلام، شعلة صغيرة من العزيمة، تهمس لي بأن أستمر، بأن أواصل السير، حتى وإن كانت الذكريات تعود محملةً بالمخاوف القديمة، وحتى وإن كان الطريق موحشًا.بينما كنت شارد الذهن، غارقًا في حديث نفسي، فجأة سمعت صوتًا أيقظني من غفلتي. كان الفقير محمد واقفًا أمامي، يرمقني بنظرة حادة، يده تتكئ على عصاه الحديدية المرهقة من كثرة الاستعمال.
قلت له، مبتسمًا رغم القلق الذي يسكنني:"السلام عليك، الفقير محمد. قل لي، كيف يتغلب المرء على مخاوفه؟"
ابتسم الفقير محمد ابتسامةً خفيفة وقال بصوت يشوبه الحكمة والمكر:"يا ولدي، لا شيء يطرد الخوف كالعزم والاستعداد. أنصحك بأن تقتني أداة حديدية متينة، كتلك التي بحوزتي، فهي لا تفارقني أبداً، خاصة في هذه الدروب.
"نظرت إلى عصاه الحديدية بتأمل وسألته بتردد:"وهل يمكن لعصا أن تكون حلاً لكل هذا الخوف؟"
هز رأسه بتأكيد وهو يقول:"صدقني، يا ولدي، لولا هذه العصا، لكنت قد وقعت فريسة لذئب مفترس في يوم من الأيام. هل سمعت بما جرى لأمرزكيو، صاحب الدكان في العرصة؟ لقد انقض عليه ذئب شرس، لكن بفضل مثل هذه الأداة تمكن من الدفاع عن نفسه. أما أنت، إن خرجت خالي اليدين، فستكون لقمة سهلة لتلك الذئاب الجائعة التي بدأت تتكاثر بشكل مهول في هذه الوديان.
"ابتلعت ريقي متأملاً ما يقوله، وأحسست بقلق يتسلل إلى نفسي. قلت له بامتنان، ولكن بقلق ظاهر:"أظنك محقاً، ربما عليّ أن أستعد كما ينبغي، فالطريق لن يكون هيناً".
ابتسم بخفة وهو يربت على كتفي قائلاً:"استعد جيدًا، واحمل معك ما تحتاجه للنجاة. فالحياة لا ترحم الغافلين، والخوف لا يُدحر إلا بالعزم والاستعداد، كنت أود مرافقتك حقا لكن للأسف لن أكون بالدوار يومها"
تركته وعدت إلى نفسي أفكر في ما قاله، وأحسست أن الخوف ليس إلا درساً جديداً، وعليّ هذه المرة أن أواجهه بكل ما أوتيت من إرادة وتجهيز. ثم سرعان ما عدت إليه لأسأله بنبرة مترددة:"هل ستذهب إلى سوق بني عمارت غدًا؟"
أومأ برأسه قائلاً بثقة:"نعم، سأذهب كالعادة. ماذا تريدني أن أجلب لك؟"
قلت له بصوت خافت، كأنني أخشى أن يسمع خوفي:"أريدك أن تقتني لي واحدة من تلك العصي الحديدية، مثل التي بحوزتك."
ابتسم الفقير محمد ابتسامة عريضة، ثم قال مطمئنًا:"لا تقلق يا ولدي، سأجلب لك واحدة قوية ومتينة، تفي بالغرض. ستحميك من كل شر في طريقك."
شعرت براحة غامرة، وكأن طلب اقتناء هذه العصا كان خطوة رمزية لتجهيز نفسي لمواجهة مخاوفي. شكرته بامتنان، ونظرت إليه بعينين مليئتين بالأمل. كانت تلك اللحظة نقطة تحول، إذ بدأت أرى في العصا أكثر من مجرد أداة، بل رمزًا للأمان، وسلاحًا أستعين به لمواجهة الخوف المتجسد في ذئاب تلك الوديان الوعرة.
مرَّ ما تبقى من الأيام كلمح البصر، وكأن الزمن أراد أن يسرع بي نحو هذه اللحظة التي كنت أترقبها بتوتر. في يوم السفر، استيقظت قبل بزوغ الفجر، مع أولى صيحات الديك التي بدت لي وكأنها إشارة الانطلاق. حملت حقيبتي على ظهري، وتشبثت بعصاي الحديدية التي أصبحت، في نظري، ليست مجرد أداة للدفاع، بل سندًا يحمله الأمل والشجاعة لمواجهة المخاطر التي تنتظرني.
انطلقت بسرعة كالسهم، متجهًا نحو سفح التلة "أفراس أزوگاغ". كانت دقات قلبي تتسارع وكأنها طبول تُدوّي في أذني، تلاحقني وتنذرني بما هو قادم. ومع كل خطوة أخطوها، كنت أشعر بمدى هشاشتي أمام الطبيعة، وكأنني بطل في أحد أفلام الرعب الهيتشكوكية، حيث تسكن الطبيعة سكونًا مخيفًا لا يُبشر بخير!
وعندما اقتربت من منتصف الطريق، قبل أن أصل إلى الوادي، سمعت فجأة خشخشة بين الشجيرات الكثيفة على الجانب. توقفت للحظة، وحاولت أن أهدئ نفسي، قائلاً في داخلي: "إنها مجرد كلاب ضالة، فقد أصبحت أعرفها جيدًا، ولم تعد تثير في نفسي ذلك الرعب الذي كان يسيطر عليّ في البداية. فالذئاب الآن هي ما يقلقني ويشغل تفكيري."
لكن رغم تظاهري بالهدوء، كان قلبي يخفق بشدة، يترقب بقلق. وإذا بي أرى أمامي أربعة قوائم تخرج ببطء من تحت الأوراق المتساقطة. رفعت رأسي ببطء لأرى عيونًا متقدة تلمع ببرودة مع أول ضوء للفجر. كان الحيوان يُحدق فيَّ بنظرات ثابتة، عيون تشتعل كأنها جمر تحت الرماد.
تجمدت في مكاني، وكأن الزمن توقف. إنه الذئب!
الفصل الخامس عشر - "ثمار الهلاك !"
بقي الذئب يحدق بي للحظات بدت لي وكأنها أبدية؛ عيناه اللامعتان تخترقان عتمة الصباح الخافت وتبعثان في نفسي خوفًا لم أعهده من قبل. شعرتُ أن الزمن قد توقف، وأن الهواء من حولي قد تجمد، وكأنَّ كل شيء كان يشهد على مواجهتي هذه اللحظة التي بدت كصراع بين الحياة والموت.
وفجأة، وبلا سابق إنذار، أشاح الذئب بوجهه، ثم أطلق قوائمه للريح متجهاً نحو الجبل المقابل لتلة العرصة، كأنه كان قد استشعر قوتي أو ربما ضعفًا لم أكن أعلم بوجوده. شاهدته وهو يصعد التل بخطوات سريعة وخفيفة، حتى اختفى بين الصخور والشجيرات. ومع انحسار ضجيج خطواته، شعرتُ بنفسي وكأنها تحررت من قيود الخوف.
تنفست الصعداء بشدة، وجثوت على ركبتيَّ من شدة الفزع والإرهاق، وكأن كل عضلة في جسدي كانت تئن من وطأة ما عشته في تلك اللحظات. أخذتُ أستجمع أنفاسي، وعيناي تحدقان في الأرض، أحاول جاهداً أن أستوعب حقيقة أنني ما زلتُ على قيد الحياة. لكن، لم يكن ما حدث مجرد نجاتي من الذئب؛ كان شيئاً أكثر عمقاً، درساً عن الخوف والشجاعة، وعن معنى المواجهة.
بينما أنا جاثٍ على ركبتيَّ، وقعت عيني على العصا التي كانت بيدي. أدركت حينها أنها سقطت مني دون أن أشعر. في تلك اللحظة، تيقنت أن العصا وحدها لم تكن لتحميني، وأن السلاح الحقيقي ليس ما تحمله بيدك، بل شجاعة استخدامه حين تكون المواجهة محتومة.
عاودت التقاط العصا، في محاولةٍ بائسة لاستعادة الثبات، ثم أكملت طريقي نحو قرية بورد. لكن صورة الذئب لم تفارق مخيلتي، ظلَّت تلاحقني كظلٍّ ثقيل، خاصةً تلك العيون اللامعة التي تعكس وحشيةً وسرًا دفينًا، وكأنها تُذكرني بأن هذا اللقاء كان مجرد بداية!
أخذت أُحدِّث نفسي بصوت مسموع، أسترجع شريط الأحداث التي واجهتها في زمنٍ قصير، أحداث تخللتها لحظات لم يكن من السهل تجاوزها، خاصة وأنا شاب في ريعان العمر، أواجه طبيعة قاسية وصعوبات لم أكن أتوقعها حين قدِمت إلى هذه المنطقة. كل خطوة بين التلال والوديان كانت تحمل بين طياتها تجربة جديدة، بعضها كان يستدعي القوة والشجاعة، والبعض الآخر يختبر حدود تحملي وثباتي.
لكن في أعماق قلبي، كان هناك شعور غريب يتسلل إلى نفسي، وكأنه يخبرني أن هذه التجارب، رغم ثقلها، لا تضمن لي النجاة في كل مرة، وأنه ليس في كل مرة ستسلم الجرة!
غاب عني الشعور بالزمن هذه المرة، كأنني أسير في حلم ثقيل، خطواتي تتبع بعضَها بلا وعي. قبل أن أدرك المسافة التي قطعتها، وجدت نفسي واقفًا أمام دكان السيد محمد، ذلك الرجل الذي مدَّ لي يد العون في المرة السابقة، ولن أنسى جميله. ألقيت عليه التحية، فرحَّب بي بابتسامته المعهودة، ودعاني للجلوس. جلسنا نحتسي الشاي، وأنا أروي له مغامرتي الأخيرة مع ذئب الوادي.
استمع إلى حكايتي باهتمام، وحين انتهيت، نظر إلي بنظرة ماكرة، وقال مازحًا: "من المعروف أن الحكاية طرفاها ليلى والذئب، لكن يبدو أنك تقمصت دور ليلى هذه المرة!" انفجرنا ضاحكين، وكأن الضحكة كانت طوق نجاة من شبح الخوف الذي ظل يلازمني.
وبينما نحن في غمرة الضحك، أطل علينا فجأة صديقنا المير، بابتسامته التي تعودناها وسؤاله المعتاد: "ما الذي يضحككم هكذا؟" نظرت إليه بامتنان وقلت، "كنا نبحث عنك يا صديقي العزيز، فقد آن الأوان للعودة إلى تازة. هيا بنا!"
مرت زيارتي للديار كعادتها كلمح البصر، لكن كل زيارة كانت بمثابة شحنة قوية لبطاريات الألفة والأنس العائلي. لم أكن أحكي لأمي وأبي عن أي مما اعترضني من مشاق ومخاوف. كان جوابي دومًا، رغم كل ما أحمله من تجارب وصعوبات، هو أن "كل شيء على ما يرام". كنت أتحاشى أن أثقل عليهما بقلقي أو مخاوفي؛ ففي عينيهما، أبحث دائمًا عن الطمأنينة والسند.
عدت أدراجي إلى العرصة، سالكًا نفس الطريق المعتاد، ولكن بشعور مختلف هذه المرة. كانت أشعة الشمس الدافئة تملأ المكان، تنساب فوق الجبال والتلال المحيطة، تنشر الضوء وتدفع الخوف بعيدًا. لطالما منحتني الشمس شعورًا بالأمان؛ فهي ترهب الذئاب والحيوانات البرية، وتجعل رحلتي أكثر طمأنينة.
في طريق عودتي هذه المرة، قررت التوقف عند مدرسة الماعلي، حيث يعمل بعض زملائي وأصدقائي. كانت المدرسة تقع في منتصف الطريق نحو العرصة، وتعتبر نقطة فاصلة بين إقليم تازة وإقليم الحسيمة. كانت هذه المدرسة تمثل لي علامة مميزة، بحدودها الجغرافية، وأيضًا كرمز للجهود التي يبذلها المعلمون وسط الظروف القاسية.
ما إن وصلت حتى شعرت بالدفء وسط الاستقبال الحار من زملائي، وكأنني عدت إلى بيتي الثاني. جلسنا نتبادل الأخبار والتجارب، وشاركتهم بعضًا من حكاياتي مع الذئاب والوادي، بينما كانت أحاديثهم تعكس الصعوبات التي يواجهونها هنا، لكنها كانت تحمل في طياتها حبًا لا يوصف لمهنة التدريس ورسالة التعليم.
ودعت صديقيَّ رشيد ومحمد وأكملت طريقي شمالًا نحو الدوار، بينما كانت أشعة الشمس المتسللة بين أغصان الأشجار تراقب خطواتي المتثاقلة. لطالما كنت أومن بأن خواتيم كل شيء تحمل في طياتها صعوبة غامضة، وكأن كل نهاية تسدل ستارها بعقبة ثقيلة، تضع أمامك اختبارًا أخيرًا قبل أن تكتمل الرحلة.
قبل أن أبلغ العرصة، كان عليّ أن أتسلق التل المرتفع الذي يشرف على الدوار، تحدٍّ لا مفرّ منه في كل عودة. كان ذلك التل صعبًا، شديد الارتفاع، يُظهر تفرُّده في صموده، كحارس يقف بيني وبين وجهتي. لم يكن تسلقه مجرد مشقة، بل اختباراً آخر ينضاف إلى رحلتي.
حاول أهل الدوار التخفيف من حدة ارتفاعه بشَقِّ طريقٍ ترابي للمشاة، يشبه الثعبان في التوائه، يتلوى بين الصخور والنباتات البرية بتصميم أشبه بمتاهة تلتف حول التل، يحاول في انحناءاته الكثيرة أن يُضفي بعض الرحمة على هذا الطريق الصاعد، ولكنه لم يكن كافيًا، إذ ظل التل شامخًا، محتفظًا بشدة ارتفاعه.
بين جنبات هذا الطريق الملتف، تتراص أشجار الساسنو (القطلب)، شامخة بأوراقها الكثيفة، مكونة غابة صغيرة ووارفة الظلال. كانت تلك الأشجار تمنحني فسحة من الراحة، ظلالها الباردة تخفف عني وطأة الصعود، كلما اشتد بي التعب، ألقيت نظرة نحو الأعلى، ثم تأملت تلك الأشجار وكأنها تقول لي: "أنت لست وحدك في هذا الطريق."
بينما كنت أتابع الصعود ببطء وسط غابة الساسنو، كانت ثمارها الحمراء الشهية تتدلى أمامي وكأنها تغريني. لم أستطع مقاومة منظرها الناضج، فمددت يدي، وبدأت أتناولها الواحدة تلو الأخرى. كانت حلاوتها تخفف بعض العناء عني وتعيد لي بعض النشاط، وكأنها تهمس لي بلطف لمتابعة السير.
لكنني، وبحكم العطش المتراكم ونفاذ الماء، لم أدرك الخطر الذي يمكن أن تشكّله هذه الثمار على معدة عطشى وتنفس متسارع. بعد بضع دقائق، شعرت بجفاف في حلقي وضيق في التنفس. حاولت تهدئة نفسي، لكن العطش زادني تعبا وأحسست بثقل في رأسي وكأن الأرض بدأت تدور بي.
اشتد بي الدوار حتى لم أعد أميز الاتجاهات، وكأن الدروب قد تآمرت علي لتدور بي في حلقة مفرغة أعادتني إلى نقطة البداية! يا للصدمة! آخر ما كنت أتوقعه أن ينتهي بي الأمر عالقاً بين متاهات الطريق بدلاً من أن أعود إلى العرصة منتصراً. لكنني تمالكت نفسي وقلت في داخلي، "لعل ما حصل فيه خير؛ فربما لو أكملت طريقي في ذلك الحال، لما وصلت." تذكرت فجأة أن هناك مجرى مائياً صغيراً عند سفح التل الشاهق الذي بدأت منه.
حدّثت نفسي، "الشرب من ذاك المجرى البعيد أفضل بكثير من أن أموت هنا مختنقاً بلا حول ولا قوة!" ووسط الأزمة، غلبني الضحك، فخاطبت نفسي: "يا لسخرية القدر، لو كان الذئب قد قَضَى عليَّ يومها، لكان موتي على الأقل أكثر شرفاً، أما الآن فأنا أُصارع ثمرة تافهة!"
أسرعت بخطواتي نحو المجرى كالغريق الذي يتشبث بقشة، وحين بلغت الماء أخيراً، ارتميت عليه شارباً بنهم، وكأن كل رشفة منه تعيدني للحياة من جديد. تنفست الصعداء وحمدت الله على هذا الفرج، فقد كانت أزمةً مباغتة لم تخطر لي على بال، وكادت تضع نهاية غير متوقعة لمساري!
استجمعت قواي وبدأت الصعود من جديد، وكل خطوة أثقلت علي، لكن عزيمتي كانت أقوى. وكما يرتبط القلب بدرس تعلمه، أقسمت في تلك اللحظة ألا أقترب من تلك الثمار اللعينة مرة أخرى؛ فقد كادت تنهي حكايتي في أحضان هذا الوادي المتربص بالوافدين.
بعد جهد جهيد، وصلت منهكًا، وقدماي بالكاد تحملان جسدي المرهق، أجرّ خطاي ببطء كأنني أحمل على كتفي أثقال هذا الجبل بأسره.
فور وصولي، شعرت بريبةٍ مما رأيت، لقد كان كل التلاميذ متجمعين على باب سكن صديقنا محمد، يتبادلون نظرات وعبارات قلقة وهم يهمسون فيما بينهم. كانت وجوههم تحمل ملامح الترقب والخوف.. تُرى ما الذي حدث؟!
الفصل السادس عشر - "مِحَنٌ بصيغة المُؤنث !"
اقتربتُ ببطء نحو التلاميذ المتجمعين، ورحت أتأمل وجوههم المرتبكة، كأنها تحمل همًّا جماعياً. وضعت يدي بلطف على كتف تلميذي عبد الرزاق وهمست له: "ماذا يحدث هنا؟"
نظر إليّ بعيون مرتعشة وقال بصوت هامس، "زوجة السي محمد يا أستاذ... لذغتها عقرب سامة!" شعرت بقلبي ينبض بقوة، وسألته بقلق، "كيف حدث ذلك؟" فأجاب: "كانت تنشر ملابس الرضيع على نبات (أفزاز) لتجف تحت الشمس، ولم تكن تعلم أن عقربًا سامًا قد التصق بتلك الملابس."
تملكني القلق، وامتلأ المكان بصمت ثقيل، سألت نفسي، كيف تتسلل إلينا الأخطار دوما لتقلب الطمأنينة إلى قلق؟!
أزحت التلاميذ المتجمعين عند الباب بلطف، ودفعتُ الباب ببطء، فدخلت المنزل لأجد محمدًا وزوجته جالسين في قلق، وإلى جانبهما صديقنا الميلود، الذي بدا رابط الجأش كعادته. الميلود كان يتعامل مع الموقف بثقة، فخِبرته الطويلة مع هذه الأراضي وعوالمها، ومع البيئة الصحراوية التي نشأ فيها، جعلته ملماً بأساليب الإسعاف الأولي في مثل هذه الحالات، فضلاً عن معرفته الدقيقة بأنواع العقارب وسمومها.
اقتربتُ منه وسألته بصوت خافت، "كيف الوضع؟" فأجابني وهو يطمئنني بنظرة هادئة، "لا تقلق، العقرب ليس من النوع القاتل، لكن علينا الإسراع في علاج اللدغة قبل أن تتفاقم."
بسرعة طلب مني الميلود إحضار قنينة غاز البوتان من سكننا، فاستغربت لوهلة، إذ لم أفهم علاقة غاز البوتان بالتخلص من سم العقرب. لكنني لم أتردد، فقد كنت أثق بخبرة الميلود، فأسرعت لإحضارها.
عندما عدت ووضعْت القنينة أمامه، نظرت إليه باستفهام: "ما دخل غاز البوتان في علاج لدغة العقرب؟"
ابتسم الميلود بثقة وأجاب: "الأمر يعتمد على برودة الغاز وليس على إشعاله. عند إطلاق قليل من غاز البوتان مباشرةً على موضع اللدغة دون إشعال، يُمكن للبرودة الشديدة أن تُبطئ من انتشار السم وتخفف الألم. تعلمت هذه الطريقة في ميسور، عندما تعرّض أحد أقاربي للدغة عقرب ونجحنا في الحد من تأثيرها بهذه الطريقة."
نظرت إليه بإعجاب وقلت: "حقًا فكرة ذكية، تعتمد على تبريد موضع الإصابة بدلًا من الحرارة."
أومأ الميلود مؤكدًا وأضاف: "بالضبط، فالتبريد السريع يحد من حركة السم في الجسم. إنها طريقة إسعافية مفيدة إذا كنا بعيدين عن مركز علاج قريب."
ثم أضاف الميلود بنبرة جدية: "لكن يجب أن تعرف أن هذا ليس سوى إجراء مؤقت. فقد أرسلت للفقير محمد لتجهيز البغال، علينا الإسراع إلى مستوصف بورد، فهذا العلاج لا يعدو كونه طريقة لإبطاء مفعول السم. ينبغي علينا الوصول إلى المركز الطبي في أسرع وقت، حيث يمكنهم التعامل مع الحالة بفعالية أكبر."
أومأت برأسي موافقًا وقلت: "فهمت، سنفعل ما بوسعنا للوصول بسرعة."
حاول الميلود طمأنتي بقوله: "لا تقلق، لا حاجة لأن ترافقنا. أنت بالكاد عدت من رحلة شاقة، ويبدو عليك الإرهاق."
ورغم إصراري على الذهاب معهم، تدخل محمد وقال لي بلطف: "لا تُجهد نفسك، صديقُنا الفقير محمد سيرافقنا، وينوب عنك."
أدركت أنه من الأفضل ترك المهمة لهم، فاقتنعت، وتراجعت، متمنياً لهم الوصول بسلام وعلاج الحالة في أسرع وقت.
وصل الفقير محمد وهو يقود البغال، وبدا محمد ممسكًا بزوجته التي استندت عليه، حيث كانت متعبة ومنهكة.
وقفتُ عند قمة التلة، أراقب سير قافلة البغال وهي تنزل ببطء عبر الطريق الملتوي. تتبعت خطواتهم بنظري، حتى غابت القافلة عن مرمى البصر، وقلبي يلهج بالدعاء أن تكون رحلتهم سَلِسَةً وأن تصل زوجة محمد إلى العلاج في الوقت المناسب.
مرّ الوقت بطيئًا، كأنّ عقارب الساعة تجرّ خُطاها على مهلٍ، بينما عيني تحدق في قرص الشمس الموشك على الغروب، يغمره جبل بوزينب الشامخ في أحضانه. كان المشهد أمامي لوحةً من السكينة والكآبة، وقلبي معلقٌ على خيط أملٍ، ينتظر خبرًا مُطمْئِنًا عن الرفاق.
فجأة، تناهت إلى مسامعي أصواتٌ خافتة من بعيد، تزداد وضوحًا كلما اقتربَت... إنهم قادمون أخيرًا! هرعت نحوهم، وأنا محاطٌ بجمعٍ من تلاميذي الذين أبوا إلا أن يبقوا بجانبي، يحملون في قلوبهم قلقًا خفيًّا على من أصابته المحنة.
نادانا محمد من بعيد: "لا تقلقوا، هي بخير الآن."
تنفستُ الصعداء وصرخت مفعمًا بالامتنان: "الحمد لله على السلامة!" لكن كلماتي انفجرت كالسيل: "ألم يحن لهذه المآسي أن تنتهي؟ الوادي الموحش، الكلاب الضالة، الذئاب، والآن العقارب! أليس هذا جحيمًا بِحَق؟!"
بينما كنت أعبر عن غضبي، لاحظت نظرات الفقير محمد تتجه نحوي بدهشة ممزوجة باستغراب. هز رأسه وقال لي بعفويةٍ حزينة: "وماذا عنا يا ولدي؟ نحن الذين وُلدنا وترعرعنا هنا... هذا ليس سوى غيض من فيض. نساء الدوار يعشن المعاناة هنا يوميًا، وكم من واحدة منهن لاقت حتفها وهي تصارع آلام المخاض في الطريق إلى المستوصف، محمولة على البغال أو على أكتاف الرجال!"
كلماته سقطت عليّ كالصاعقة، نبهتني إلى قسوةٍ قديمة لم أرها من قبل، معاناة تتخلل تفاصيل الحياة في هذا المكان، حيث البقاء نفسه يكاد يكون ضربًا من البطولة، ثم سرعان ما ارتسمت في مخيلتي صور أولئك النسوة اللائي كنت دوما ما أراهن يحملن أثقالا كبيرة على ظهورهن وأكواما من الحطب والأعواد، وأستغرب لقدرتهن العجيبة على تحمل كل هذه المشقة والابتسامة لا تفارقهن!
أحسست حينها أنني قسوت على الفقير محمد وأهل الدوار بكلماتي المتسرعة. كيف لي أن أنسى أنهم، رغم قسوة الحياة هنا وصعوباتها، لم أر منهم إلا كل خير؟ بقدر ما تفرض علينا وعليهم هذه الأرض من تحديات ومخاطر، بقدر ما تغمرني طيبة أهل العرصة وكرمهم. هم الوجه المشرق وسط هذه المعاناة، بكرمهم ينسونني المشقة التي أواجهها في كل خطوة أقطعها هنا.
اعتذرت من الفقير محمد بكل صدق، موضحًا له أن ما قلته كان مجرد تنفيس عن لحظة غضب وضغط متراكم، خاصة في هذه الأيام الصعبة التي نحياها وسط هذه الطبيعة القاسية. تَفهَّم الرجل، وابتسم لي بحنان وكأنه يقرأ ما بداخلي، وقال: "نعلم ذلك يا ولدي، فكلنا نختنق أحيانًا تحت هذا العبء، لكننا نتجاوز الأمر كما تعودنا."
وبينما نحن في خضم نقاشنا، إذا بصديقَيْنا مجيد وخالد يصلان من أولاد أحمد، حيث كانا يحضران اجتماعًا هناك. جلسنا جميعًا وأخذنا نسرد لهما ما وقع، من لدغة العقرب والأحداث العصيبة التي مررنا بها. كانا يستمعان بإصغاء واهتمام، إلى أن قاطعنا خالد بملامح جادة، وأخبرني قائلاً: "عليكما أنت والميلود أن تذهبا غدًا إلى أولاد أحمد لاستقبال المعلمة الجديدة التي تم تعيينها معنا في العرصة."
أصابتني كلماته بدهشة وصدمة في آنٍ واحد. وتبادلنا النظرات الصامتة، كأننا نتشارك نفس الشعور، القلق والتساؤل: "كيف لمعلمة شابة أن تصمد هنا في مواجهة كل هذه المِحن، وسط جبال شاهقة ومسالك وعرة ووحشة الذئاب والكلاب الضالة، ونحن بالكاد نتعايش مع الظروف القاسية التي تحاصرنا؟"
سرعان ما تملكني شعور بالشفقة على حالها قبل حتى أن أراها، وعقدت العزم في داخلي على أن نكون لها سندًا -كما فعل رفاقي معي- في كل تحدٍّ ستواجهه هنا.
همس الميلود، مشجعًا ومرحّبًا بالفكرة، قائلاً: "غدًا نلتقي بها إن شاء الله، فلا تقلق يا صديقي، قد تكون أقوى مما نتوقع!"
الفصل السابع عشر - "أسرةٌ صغيرةٌ تَكبُر !"
مع انبلاج الصباح، انطلقنا أنا والميلود في رحلة نحو أولاد أحمد، حيث سنستقبل المعلمة الجديدة التي انضمت إلينا في العرصة. كان الجو باردا ومنعشا، والضباب يتسلل بخفة فوق الحقول والأشجار، يضفي على المكان سحرا خاصا، وكأن الطبيعة تتزين لاستقبال ضيف جديد بيننا.
كان اليومُ يومَ السوق الأسبوعي، ما جعل الحصول على بغال أكثر، مهمةً شبه مستحيلةٍ، فأهل الدوار في حاجة لبغالهم، وقد اتفقنا أنا والميلود أن تركب المعلمة البغل الوحيد الذي بحوزتنا، بينما سنعود نحن سيرا على الأقدام، فلن يكون من اللائق تركها تسير في هذا الطريق الوعر، فهي لم تعتد على تضاريس هذه المنطقة ولا على قسوة طبيعتها.
عند وصولنا، بدا لنا والد المعلمة واقفا بجانبها، قلِقاً، يتفحصنا بعينينِ مليئتينِ بالرجاء والثقة في آن واحد. أما هي، فقد كانت شابة يافعة، تنبض بالحياة، بتفاصيلِ وجهٍ هادئةٍ وملامحَ تنم عن عزم وإصرار؛ عيناها تلمعان بوميض القوة، وابتسامتها الهادئة تخفي خلفها شجاعة نادرة.
اقتربنا منها ومددنا أيدينا للسلام، فبادلتنا بابتسامة خجولة، رأيت في وجهها صموداً، حيث بدا أنها قد قررت مسبقاً أن تخوض هذه التجربة دون رهبة، رغم أن قسوة الطريق والمكان يبدوان كأفكار قد راودتها من قبل.
نظرَتْ إلينا بنبرة فضولية وسألتنا: "كم تبعد المدرسة من هنا؟" ثم أتبعت سؤالها بأسئلة سريعةٍ متتاليةٍ عن الحياة في العرصة، وعن مكان سكَنها، وكيف ستكون ظروف المعيشة هناك.
تبادلنا أنا والميلود النظرات، إذ لم نكن قد فكرنا سابقاً في تفاصيل إقامتها بالدوار، فجاء سؤالها ليجعلنا ندرك أن هذه المسؤولية أكبر مما كنا نظن!
تبسمتُ وقلت لها بصوت مُطمئِنٍ، "لا تقلقي، سنجد حلاً مناسباً، أهل العرصة طيبون وستسعدهم مساعدتك."
لكن في داخلي، كنت أعيدُ التفكير في الأمر، وأتساءل عن مكان يناسب امرأةً شابةً جاءت لتؤدي واجبها في مكان ناءٍ كهذا، بعيداً عن كل ما اعتادت عليه.
عندما حانت لحظة الوداع، لاحظت كيف كانت عينا الأب تلمعان تحت بريق الشمس، كان يحاول عبثا حبس دموعه، ثم ألقى نظرةً طويلةً على ابنته، نظرة امتلأت بحنان أب يخشى على صغيرته من عوالمَ لا يعرفها. ثم اقترب مني، أمسك بذراعي بحزم، وصوته يرتعش بمزيج من الحب والخوف وهمس في أذني قائلا: "ابنتي أمانةٌ في أعناقكم... إنها كلُّ ما أملك!"
شعرت بعمق ثقته وثقل المسؤولية، فربتُّ على كتفه وقلت له بهدوء، "اطمئن، سنكون لها عونًا وسندًا. أهل العرصة لن يتركوها بمفردها، فهي بين إخوتها الآن."
بابتسامة واثقة، سألتها: "هل سبق لكِ أن ركبتِ بغلاً من قبل؟" فأجابتني وهي تضحك بشيء من التحدي: "أتمنى أن تستطيعوا اللحاق بي على دروب الطريق!"
التفتَ إليّ الميلود بنظرةٍ خاطفةٍ تحملُ رسائلَ غير منطوقةٍ، كأن لسانَ حالهِ يقول: "ألم أقل لك؟ ربما ستكون أقوى مما نتصور!"
كانت إشاراتها مُطَمْئِنَة، وبدا من ملامحها أن روحها مليئةٌ بالحماس، وربما تملك شجاعةً لم نعهدها كثيرًا في مثل هذه الظروف.
ورغم تلك المؤشرات الإيجابية، لم أستطع تبديد قلقي. كنت أفكر بصعوبة طريق العودة، قساوة الدروب، وواقع العرصة بما يحمله من تحديات. كنت أخشى من أن يخبو حماسها واندفاعها عند أوَّلِ محكّ، وعند مواجهتها للحقيقة القاسية؛ فليست العرصة مكانًا يُرحِّبُ بالغرباء، لكنها المكانُ الذي يمكن أن يمنحها أكثر من مجرد تجربة…
ودَّعَتْ كريمةُ والدها بعناقٍ طويلٍ ونظراتٍ تُشع بالحب والاطمئنان، ثم انطلقنا في طريق العودة نحو الدوار.
في لحظة صمتٍ، كنت أفكر في اسمها، "كريمة" .. لعل هذا الاسم يجلب لنا حظاً جديداً ويكونَ فألَ خيرٍ علينا جميعاً. فلعل بقدومها ستجود علينا الحياة بشيء من الكرم والرحمة، بعد كل ما واجهناه من مشاقٍّ وأحداثٍ عصفت بنا خلال الأيام الماضية، وكأننا في رحلةٍ لا تُهدى إلا لأصحاب القلوب الصبورة!
في الطريق، تردد صدى خطوات البغل على الممرات الضيقة، وبدت كريمة متماسكة، كما لو أن قلبَها يعرف الدروب جيداً. كانت كل خطوة تقربنا من الدوار، وكلنا أمل أن يحمل معها مجيء كريمة بداية جديدة، تجدد في نفوسنا الصبر والتفاؤل وسط هذا العالم القاسي.
بدأت ملامح الدوار تلوح من بعيد، هذه المرة لم نشعر ببُعد المسافة، فقد خففت الأحاديث المتواصلة وقع الطريق على قلوبنا وأقدامنا. كنا نتحدث بحماسةٍ، نحكي لكريمةَ كلَّ تفاصيل الحياة بالعرصة؛ سردنا لها قصصاً عن أهل الدوار، عن طبيعة المكان وصعوبة ظروفه، وعن تلك اللحظات التي تجمع بين القسوة والبساطة.
هي أيضا لم تبخل علينا، فكانت تُنصتُ باهتمام، وتشاركنا رأيها بحماس، وتسأل عن أدقِّ التفاصيل، فقد كانت تحاول من الآن أن تنسُجَ نفسها ضمن هذه الحياة الجديدة.
شعرتُ وقتها أننا لم نعد مجرد زملاءِ عمل، بل تحولنا إلى رفقاءِ دربٍ، نخوض مغامرةً واحدةً، ونتشارك آمالاً وتحدياتٍ ستصقلنا وتجعلُ منّا أسرةً صغيرةً تكبُر شيئا فشيئا بين جبال العرصة الشامخة.
الفصل الثامن عشر - "أمانةٌ وسط الجبال !"
ما إن وصلنا إلى العرصة، حتى بدأت نظرات الفضول تملأ وجوه التلاميذ وأهالي الدوار. وقف الأطفال على أطراف الدرب بتردد، كأنهم أمام شخصية جديدة لم يسبق لهم أن عرفوا مثلها. كريمة، بابتسامتها الواثقة، تقدمت نحوهم بخطوات حانية، قائلة بصوتها الدافئ: "نحن هنا لنعمل معًا، وسنحقق أشياء كبيرة بإذن الله." كانت كلماتها تحمل دفئاً وصدقاً، فاقترب منها أحد الأطفال الصغار مبتسماً، وقال: "سنجعل العرصة أفضل مدرسة، أليس كذلك يا معلمتي؟" ابتسمت له كريمة وأومأت برأسها، فكأن كلماتها الهادئة نسجت بينها وبينهم خيطاً غير مرئي من الثقة والأمل.
وبينما تبادلنا التحيات، كان الفقير محمد يراقب الموقف من بعيد، ويميل نحوي ليقول بهدوء وثقة: "لا تقلق على مسألة إقامتها، أعتقد أنني وجدت الحل؛ ستقيم مع أسرة تتألف من امرأة عجوز وابنتها، تسكنان غير بعيد عن المدرسة، ستعتبرانها كفردٍ من الأسرة، وستكون بأمان بينهما."
شعرتُ ببعض الراحة لهذا الاقتراح، وبدا على كريمة الارتياح النسبي حين أخبرتها بذلك. لكن رغم محاولاتها إخفاء مشاعرها، لم تفلح في إخفاء تلك النظرات التي تعكس شيئاً من الدهشة والرهبة في آن. اقتربتُ منها وقلت بابتسامة مُطَمْئِنَةٍ: "العرصة قد تبدو بعيدة وصعبة، لكنها تمنح ساكنيها ما لا تجده في أي مكان آخر. أهلها طيبون، وستعتادين على تضاريسها."
نظرت إليّ بنبرة فضول واعتراف، ثم قالت بصوت منخفض: "لم أتوقع أن تكون الحياة هنا بهذا العمق من العزلة... كأنني أخوض مغامرة غير محسوبة!" ابتسمتُ مجددًا، مُطَمْئِنًا إياها: "اعلمي أنكِ ستجدين في هذا المكان تجارب ومواقف استثنائية."
استقرت كريمة أخيرًا في بيت المرأة العجوز وابنتها، حيث كان الاستقبال حافلاً بالكرم والألفة. منذ اللحظة الأولى، شعرَت بدفء يخفف عنها بُعد الأهل، فقد فتحت لها العجوز قلبها وبيتها كأنها فرد من العائلة. رحبت بها بكلمات طيبة وبساطة قلب، فيما قدمت الابنة يد العون بتلقائية ومحبة، حيث أحست ببعض الأمان. كانت لمسات الاهتمام بادية في كل زاوية من المنزل، كأنهما قد هيأتا المكان خصيصًا لاستقبالها، ليمنحاها شعورًا بالانتماء والراحة وسط هذا العالم الجديد.
مرت الأيام، لكني كنت كل صباح ألتقط تلك الدموع الخفية التي كانت تتسلل إلى عينيها، سريعة كطيف عابر، سرعان ما تزيلها بخفة، كما لو كانت ترفض الاستسلام لضعفها، وتصر على الصمود أمام صعوبات المكان. رأيتها تتشبث بابتسامتها، تحاول أن تخفيَ خلفها كل الأحلام والأماني التي جلبَتها معها، وهي تجاهد في التكيف مع هذا العالم البعيد.
كلما رأيتها تُصارع وحدتها وتشد على إرادتها، أحسست وكأنني أعايش قصتي من جديد، وكأن تفاصيل حياتي الأولى في العرصة تتجسد أمامي مرة أخرى، تُعاد من خلال خطواتها الصبورة.
وذات صباح، اقتربَت مني بلهفة، قائلة: "أريد سماع صوت والدي ووالدتي… فقط لأُطمئنهم أنني بخير، لقد اشتقت لهما كثيرا." ترددت للحظات، ثم شرحت لها أن التواصل ليس بالأمر السهل، وأن علينا صعود قمة الجبل لالتقاط الإشارة. لكنها لم تتردد ولو للحظة، ونظرت إليّ بصلابة قائلة: "لا يهمني كم سأصعد، وإن كان الثمن أن أصل للقمر، سأفعله لأسمع صوتهما."
في تلك اللحظة، شعرت أن كريمة لم تأتِ إلى العرصة كأي معلمة أخرى، بل جاءت لتخوض رحلةً غير عادية، تجمع فيها بين القوة والصمود. لقد كانت، مثلما كنتُ يوماً، تبحث عن ملاذ وسط هذه الجبال الشامخة.
قررنا أخيرا، أن نصعد قمة الجبل في الصباح التالي، ورفيقنا المعتاد، تلميذي عبد الرزاق، انضم إلينا كعادته. كان عبد الرزاق دوماً حاضراً في هذه اللحظات، بروحه الخفيفة وطاقته التي تبعث فينا الحماس، وكأنه جزء من الرحلة التي لا تكتمل تفاصيلها إلا بحضوره.
هذه المرة، كنت مستعدًا أكثر من أي وقت مضى، وحرصت على شحن بطارية هاتفي جيدًا بعد تجربتي السابقة التي أوشكتُ فيها أن أُحرم من لحظات التواصل مع الأحبة في الطرف الآخر من العالم! .. صعدنا الطريق الصعب معًا، تتخللنا لحظات صمت مهيب، لا يُكسِّره إلا صدى أنفاسنا اللاهثة، المختنقة، وفي كل خطوة كان الجبل يختبر صمودنا، حتى وصلنا أخيرًا إلى القمة بعد عناءٍ طويل.
وحين التقط الهاتف الإشارة، ناولته لكريمة بلطف، وابتعدت أنا وعبد الرزاق قليلاً، تاركين لها مساحةَ خلوةٍ مع أهلها.كنت أَرقُبها من بعيد، بدت صامدة للحظات، تكبح الدموع التي كانت مختبئة خلف عينيها. لكن الكلمات الأولى من عائلتها كسرت صمتها، لتعود الدموع فجأة، تملأ عينيها، وهي تمسك الهاتف كأنها تتمسك بكل ما تركته خلفها. بدا لي أن صوت الأهل أزال آخر جدارٍ حاولت أن تبنيه حول مشاعرها.
أنهت كريمة المكالمة، وأعادت إلي الهاتف بيدٍ مرتجفة، وعيناها تفيض بالدموع. لقد انتصر الضعف أخيرًا على قوتها، وهي التي كانت تحاول جاهدة الحفاظ عليها، وكأن الجبل الشامخ الذي صعدناه لم يكن سوى مرآةً تعكس لحظة من الضعف الإنساني الجميل.
نزلنا من قمة الجبل معًا، في صمتٍ مهيب، دون أن ننبس بكلمة. فقد كان وقع اللحظة أثقلَ من أن تصفه الكلمات! كلانا كنا غارقَيْنِ في أفكارنا، بينما عبد الرزاق يسير أمامنا بخطوات ثابتة، كأنه يدرك أن صمتنا لا يُلامس إلا تلك الأحاسيس الثقيلة التي يحملها الجبل معنا.
لكن، ما العمل؟ ما الذي يمكنني فعله للتخفيف عنها؟ شعرت أنني محاصر بين رغبة في مد يد العون، وبين إدراك أن بعض الأحزان تظل عصيَّة على المشاركة، وتحتاج الوقت لتخِفّ وطأتها. كنت أعتبرها أمانة ثمينة، جزءًا من ذاك الوعد الصامت الذي قطعته لوالدها حين أمسك بذراعي، وصدى كلماته ظل يتردد في خاطري، يذكرني بمسؤوليتي تجاهها.
أمضينا الطريق دون كلام، لكن في داخلي كان هناك حوار لا يتوقف، أبحث فيه عن أي وسيلة قد تمنحها القوة في هذا الموقف الصعب، وتعيد إليها الشجاعة التي تحتاجها لتواصل المسير، بين جبال الريف الشامخة هذه، حيث تتجلى صعوبة الحياة واختبار الصبر.
فجأة، قطعتُ الصمت ونطقتُ بصوت هادئ: "في نهاية الأسبوع، سأغادر إلى الديار. أتريدين مرافقتي؟ سأحرص على وصولك إلى أهلك بأمان، تقضين يومًا معهم، ثم نعود سويًا بعد ذلك"
كانت كلماتي كوقع البلسم على جراحها الخفية، كفكفتْ دموعها، ورأيت ابتسامة ترتسم على وجهها، تضيء ملامحها الباهتة التي أثقلها الحنين إلى حضن عائلتها.
في نهاية الأمر، كريمة شابة في العشرينات من عمرها، لم تزل قريبة العهد بدفء البيت وأمان العائلة، ومن الطبيعي أن تشعر بالارتباط العميق بأهلها في هذه المرحلة من حياتها. كانت الفرحة العارمة تكسو محياها، وكأنما أحيَيْت بحديثي شوقها الصامت لحنان الأسرة وذاك الحب الذي يرمم ما يهدمه بُعد المكان وصعوبة الحياة.
شعرتُ أن هذا القرار كان ضرورياً؛ ليس فقط ليمنحها الراحة، بل ليعيد لها شيئًا من القوة التي استنزفتها الأيام الأولى القليلة التي أمضتها هنا بالعرصة. كانت العودة، ولو لفترة وجيزة، بمثابة استراحة محارب، تمنحها طاقةً جديدةً وترتدي بها مرة أخرى ثوب الصبر والعزيمة التي تحتاجها لمواصلة هذه المغامرة التي اختارتها بإرادتها، بعيداً عن كل ما اعتادت عليه.
الفصل التاسع عشر - "هجرة على ضفاف المجهول!"
عندما وصلنا إلى العرصة بعد رحلتنا للجبل، رافقنا أنا وعبد الرزاق كريمة إلى سكنها. كان وجهها مشرقاً، وملامح الفرح تطل من عينيها؛ لقد وجدت في تواصلها القصير مع الأهل عودة للطاقة والتفاؤل، وكأن الحنين قد تجدد، لكن برفقة شعور جديد بالقدرة على مواجهة الصعاب. كان شوقها للديار وقرب عودتها هناك، هو البلسم الذي خفف من وطأة البعد والوحدة التي كانت تثقل على نفسها.
ودّعناها، وأكملت طريقي نحو المدرسة مع عبد الرزاق، وجدنا الفقير محمد كعادته يرعى أغنامه بمحاذاة التلال. تبادلنا أطراف الحديث كالمعتاد، ووجدتها فرصة لإخباره بأني أنوي السفر إلى الديار نهاية الأسبوع برفقة كريمة. استبشر الفقير محمد بالخبر وأجابني قائلاً بأنه أيضاً سيتوجه إلى بورد لقضاء بعض الأغراض. كان لحديثه وقع إيجابي على نفسي؛ فمرافقة الفقير محمد كانت دوماً تملأني بالاطمئنان، خاصة بعد أن علمت أنه سيأخذ بغلين ليحمل عليهما أكياساً من القمح إلى مطحنة القرية.
حلّت نهاية الأسبوع، وانطلقنا على نفس الدروب، عائدين إلى الديار. كانت الطريق بين الأودية والتلال تبدو أقصر هذه المرة، فالأحاديث والرفقة الطيبة تكسر الحواجز وتختصر المسافات، وما إن وصلنا إلى بورد حتى وجدنا أنفسنا سريعاً في سيارة الأجرة المتوجهة نحو تازة. عند وصولنا، ودعتُ كريمة التي تابعت طريقها نحو فاس.
مرّ اليوم كلمح البصر، لم نشعر بأنفسنا إلا ونحن على ضفاف الوادي في طريق العودة للعرصة.لاحظت في عيني كريمة بريقاً من الحماس والثقة، يبدو أنها استمدته من دفء الأهل، لتعاود ارتداء ثوب القوة والثبات الذي عرفتها به عندما قابلتها أول مرة.
وجدنا الفقير محمد في انتظارنا كعادته، ووجدنا كذلك مفاجأة سارّة على التلة المقابلة للقرية، حيث شاهدنا عمال شركة للاتصالات منشغلين بتركيب برج جديد لشبكة الهاتف المحمول. أخيراً، سيصبح بإمكاننا قريبا أن نُبقي على صِلتنا مع الأهل والأحباب دون الاضطرار إلى رحلة مرهقة نحو قمة الجبل الشاهق.
لكنني لاحظت أن الفقير محمد لم يكن على طبيعته المعهودة، فقد بدا صامتا، مشغول البال وعيناه تتأرجحان بين الحزن والتوتر. توجهت نحوه وسألته: "ما الخطب؟ تبدو قلقاً اليوم."
نظر إليّ بملامحٍ تنم عن قلقٍ عميق، وقال ببطء كأنه يختار كلماته بعناية: "ابني البكر سيحاول الليلة الهجرة سراً إلى إسبانيا… عبر البحر."
صُعقت للخبر وسألته متوجساً: "وكيف سيعبر؟" أجابني بوجه كاد أن يُطفئه القلق: "سيستقل قارباً مطاطياً مع مجموعة من الشباب... لست مطمئناً، لكن لا خيار أمامه!
توقف الفقير محمد عن المشي، وجلس متكئًا على صخرةٍ بالوادي تبدو كأنها تئن تحت وطأة الهموم التي يحملها في قلبه. بدا وكأنه يحاول استجماع الكلمات بصعوبة، ثم همس بصوت حزين: "ابني… لم يترك له هذا المكان سوى الذكريات والهموم الثقيلة. لقد تعب من حياة تضيق علينا يوماً بعد يوم، لا أمل فيها إلا للذين لا يسأمون الانتظار."
ثم أضاف بنبرة مفعمة بالحسرة: "لم نعد نجد في هذه الأرض ما نعيش به بكرامة، كل شيء أصبح صعبًا، كل شيء!! ولدي رأى في الهجرة نافذة أمل، ربما يصل إلى أرضٍ تمنحه فرصةً أفضل؛ حياة لا يعاني فيها كل يوم من أجل لقمة العيش."
توقف لحظةً وكأن الكلمات خانته، ثم استرسل قائلاً: "هو يعرف أن الطريق محفوف بالخطر، ويعلم أن المجهول قد يبتلعه، لكنه لا يملك خيارًا آخر… حتى أنا لا ألومه، بل ألوم هذا الواقع الذي دفعه لخوض مغامرة ربما لا يعود منها أبدًا." ولكن الطريق محفوف بالمخاطر، وأنا أخشى عليه من الهلاك."
فجأة، قاطعته كريمة وسألته بنبرة قلقة: "متى سينطلق؟" أجابها الفقير محمد: "هذه الليلة، هو الآن في طنجة، وقد اتصلت بقريب لنا في إسبانيا، سينتظره هناك ويساعده حالما يصل، وقد أمدني برقم هاتفه لأتصل به ويطمئنني عليه."
رأيت قلق الفقير محمد يتصاعد، كيف سيطمئن على سلامة ابنه إذا كانت سبل التواصل منقطعة هنا؟ كان مشهد ضعفه أمام هذا القلق يثير في نفسي رغبةً بردّ جزء ولو يسير من جميله.
فكرت في الحل الأمثل ثم قلت له: "لا تقلق، سأرافقك الليلة، سنصعد معاً إلى قمة الجبل لنحاول الحصول على إشارة؛ سنقضي الليلة هناك بانتظار الخبر، لا خيار ولا مناص! فعلى ما يبدو فإن ذاك الجبل أضحى قدري المحتوم، لكنني سأقف معك إلى النهاية."
كانت عيناه تحملان امتناناً حقيقياً، وما هي إلا ساعات معدودة بعد وصولنا للعرصة، حتى كنا في قمة الجبل، واخترنا مكانا تحت شجرة كبيرة علّنا نجد شيئاً من الدفء. أحضرنا معنا بعض الأغطية علها تخفف عنا وطأة الصقيع الذي يشتد كلما اشتدت حُلكة الليل.
كانت النسمات الباردة تتسلل لتلسع وجوهنا. لم يكن أمامنا من خيار سوى الانتظار، فشرع الفقير محمد في معاودة الاتصال، مرةً تلو الأخرى، لكنه لم يحصل على أي جديد. كان كل اتصال يعيد ذات الجواب المخيب: "لا خبر بعد!"
غلبني النعاس قليلاً، فاستسلمت للنوم متكئاً على جذع الشجرة. وفجأة، استيقظت على رنين الهاتف، سمعت الفقير محمد يتمتم بصوت مليء بالأمل: "لعله خير…" نظر إليّ، ثم بلهفةٍ ويدين مرتجفتين، أمسك بالهاتف المعلق على غصن الشجرة.
أجاب الفقير محمد، وللحظة، رأيت الخوف يتسلل إلى وجهه أكثر. قال بصوت مختنق: "كيف؟! كيف حصل هذا؟!''
الفصل العشرون - "كرمٌ من رحِم المعاناة!''
"شعرت بدقات قلبي تتسارع بشدة، ولم أطق صبرًا لمعرفة ما حدث. بعينين ملتهبتين بلهفة وخوف، حدقتُ في الفقير محمد وسألته: "ماذا هناك؟ هل من جديد؟"
بصوت مليء بالرهبة والألم، أجابني أن قريبه قد أخبره بأن جميع من كانوا على متن القارب المطاطي وصلوا بسلام، لكن بينهم لم يكن هناك أي أثر لابنه!
خارت قواه، وانهار جاثيًا على الأرض، وبدأ يردد كلمات تخرج بهمس مليء بالحسرة: "ما من شك... البحر قد ابتلعه. يا حسرتاه على ولدي!" وامتلأت عيناه بالدموع التي تلألأت تحت نور القمر الساطع، تعكس ألمًا عميقًا لا يمكن لأي كلمات أن تخفف منه. كان مشهدًا مليئًا بالألم، حيث وقفنا معا وسط العتمة، ضوء القمر وقلوبنا الثقيلة تشهدان على تلك اللحظة المؤلمة.
قال لي بصوت منهك، "هيا بنا ننزل للديار، فما من داعٍ الآن لبقائنا هنا في هذا البرد القارس."
اعتذر لي، وأخبرني أنه لن ينسى أبدًا وقوفي بجانبه في هذه اللحظات العصيبة.
ربتُّ على كتفه، محاولاً تخفيف عبء المشاعر الجياشة، قلت له بهدوء، "لا داعي للشكر. كنت أتمنى أن تنتهي هذه الليلة نهاية سعيدة، ولكنها للأسف بدأت بفصل جديد من الألم والانتظار."
عدتُ إلى فراشي بعد أن افترقنا، لكن النوم لم يعرف طريقه إلى جفوني. سيطر عليّ التفكير في الفقير محمد ومصير ابنه، ولم أستطع طرد تلك السيناريوهات القاتمة التي رسمَتها مخيلتي، فقد كانت أغلبها تنتهي بنتائج مخيبة. ومع ذلك، في النهاية، استسلمت للنوم مرهقًا.
فجأة، رن الهاتف! قفزت من فراشي مذعورًا وأمسكت الهاتف بلهفة: "ألو، من معي؟!"
جاءني صوت هادئ من الطرف الآخر: "إنه أنا، نور الدين، ابن الفقير محمد!" لم أصدق أذني! كنت في حالة من الذهول وهرولتُ كمن لدغته نار، تمنيت لو استحال فراشي إلى بساط الريح ليحملني مباشرة إلى الفقير محمد، لأطمئنه على ابنه."
استجمعت قواي واسترسلتُ في الحديث مع نور الدين، أسأله بلهفة، "ماذا حدث؟ والدك كان قلقًا عليك إلى حد لا يوصف، الليلة الماضية كانت ثقيلة عليه..." أجابني أنه سلك طريقًا مختلفًا لتجنب الوقوع في قبضة شرطة الحدود، وبقي مختبئًا حتى سنحت له الفرصة للتواصل مع أقاربه.
وبينما كنت تحت تأثير الصدمة، انتبهت أخيرا لأمرٍ مدهش... كيف تمكنتُ من التحدث معه هنا؟! سارعت بالنظر إلى شاشة الهاتف، فبدت لي خطوط الإشارة الرفيعة تلمع كأنها شريان حياة! إنها ملاذٌ حقيقيٌ سينتشلنا من عزلتنا، ويفتح لنا بابًا للتواصل يُنهي حِقبة من الوحشة.
ابتسمتُ ابتسامة عريضة، ثم همست لنفسي "أخيرا سأودع ذاك الجبل وصعوده المتكرر!"
وما هي إلا لحظات حتى سمعت أصوات خطوات تهرول نحوي، كان محمد والميلود وكريمة يتسابقون للوصول إليّ، يرفعون هواتفهم فرحين، وقد بدت الإشارة كهدية من السماء للجميع.
اتجه كلٌ منا إلى زاوية قريبة، يحمل هاتفه ويحادث من يحب. لمحت كريمة قرب التلة تتحدث مع أهلها، وكانت دموعها قد زالت ليحل محلها الفرح الغامر. ابتسمتُ وقلت: "هذه هي أولى هباتِ الكرمِ قد بدأت تجود علينا".
جاء دوري الآن لأُجري "اتصال الأمل" المنتظر، لا يمكن أن أُفوِّت هذه اللحظة الذهبية! أمسكت بالهاتف بقوة وكأنني أمسك العالم بأسره، وأخذت نفسًا عميقًا قبل أن أضغط على الأرقام التي أحفظها عن ظهر قلب. أمي وأبي، أحبائي وأصدقائي... أخيرًا، سأسمع أصواتكم دون حواجز أو معيقات، دون انتظار أو صعود جبال وعرة. كان مجرد التفكير في سماع كلماتهم كافيًا ليشعرني بالسكينة التي لم أختبرها منذ وقت طويل.
وعندما أنهيت اتصالاتي الكثيرة، وقد استنفدت بطارية هاتفي كعادتي، التفتُ لأفاجأ بصديقنا مجيد يقف أمامي، وقد عاد للتو من مكناس. لفتَتِ انتباهي الحمولة التي كانت على ظهور البغال التي قدِم بها رفقة أهل الدوار، وقبل أن أتمكن من سؤاله، ابتسم مجيد ابتسامة عريضة وصاح بحماس: "مصطفى، أخيرًا... أحضرتها! هي وكل ما يلزم... وداعًا لحياة الشقاء والتعب، وليبدأ زمن الرفاهية من الآن!"
الفصل الحادي والعشرون: "أملٌ لا ينطفئ! "
وقفنا بترقب أمام حمولات البغال، التي حملت لنا شيئًا لطالما حلمنا به في هذا المكان المعزول عن العالم. لم يكن مجرد يوم اعتيادي؛ إذ كان يومًا سيغير نمط حياتنا في هذه الأرض النائية. بين الحقائب والأكياس، برزت اللوحة الشمسية اللامعة، التي اتفقتُ أنا ومجيد على اقتنائها في آخر زيارة له للمدينة. شعرتُ بالكثير من الحماس، فقد كنا نأمل أن تمدنا اللوحة الشمسية بقدر بسيط من الرفاهية، فتضيء لنا المكان وتُشغِّل لنا تلفازًا صغيرًا كنت قد اشتريته ليكون رفيقًا لنا في ليالينا الطويلة.
أخرج مجيد من أمتعته جهاز استقبال رقميًّا، يعمل بالبطاريات، وعدة أسلاك وأدوات تركيب، وقد أحضر كل الأدوات التي قد نحتاجها، حتى أصغرها. وعلى الفور، تجمع التلاميذ حولنا وقد ظهرت عليهم علامات الدهشة والحماسة، وكأنهم أمام سحرٍ غامض. شرحت لهم كيف تعمل اللوحة الشمسية وأخبرتهم عن فكرة تحويل ضوء الشمس إلى طاقة يمكننا استخدامها، كانوا ينظرون إلي باهتمام وأنا أقدم لهم درسًا علميًا مختلفًا تمامًا عما عرفوه من قبل. كنت أراهم يتعلمون بحب، مبهورين بكل تفاصيل هذه التجربة، وقد رأيت في أعينهم لمعة أمل جديدة، حيث أدركوا أن هناك نافذةً أخرى من العالم ستفتح لهم.
دفعني الحماس إلى بدء العمل فورًا. تسلقتُ السطح بمساعدة خالد والميلود، وبدأنا بتركيب اللوحة الشمسية، ومجيد إلى جانبي يتأكد من ترتيب كل قطعة في مكانها، كان كمن يبني بيتًا خاصًا به، مستمتعًا ومتفانيًا في ترتيب الأمور الصغيرة. ربطنا الأسلاك وضبطنا المداخل وتأكدنا من تثبيت كل شيء بعناية فائقة، لنضمن أن التيار سيصل أخيرًا إلى غرفنا في هذا السكن البسيط.
بينما كنت على وشك وصل الأسلاك بالمقابس المثبتة على الجدران، فوجئت بصدمة غير متوقعة! فتحتُ المقابس لأكتشف أنها خالية تمامًا من الأسلاك، مجرد ديكور فارغ بلا قيمة عملية! غمرني شعور عميق بخيبة الأمل والخذلان. كيف يمكن لشخص أن يبني سكنًا ويترك مأخذ الكهرباء دون توصيل، كمن يبيع الأمل بلا أي نية للوفاء؟ تذكرت حينها عبد السلام وإدريس، البناءين اللذين وثقنا بهما، تقاسمنا معهما الطعام والحكايات، وأبديا تفانيًا في العمل، لكن خلف تلك الابتسامات، اختفى اهتمامهما بالتفاصيل الصغيرة التي تحمل اليوم قيمة كبيرة بالنسبة لنا.
كانا يعتقدان أنه لا جدوى من تمديد الأسلاك في مكان ناءٍ كهذا، فمن المستحيل أن تصل شبكة الكهرباء إلى هنا يومًا! شعرت بمرارة عميقة، فما أقسى أن يغرس أحدهم فيك الأمل ثم يتركه وهمًا فارغًا، كوعودٍ بعيدة المنال.
أدركت حينها أن للعمل الصادق معنىً يتجاوز حدود الزمان والمكان؛ إنه طابع خالد يعكس إخلاص صاحبه ويترك أثره حتى في العزلة. فالعمل القائم على الضمير والاهتمام، مهما كانت بساطته أو بُعد موقعه، يبقى وميضًا يحمل ملامح من صنعه، ولا يندثر حتى في الأماكن التي لم يُقدّر فيها.
بعد لحظات، قررنا ألا نستسلم للصعاب. رتبنا الأسلاك على الجدران من الخارج، كان شكلها غريبًا وغير متناسق، لكنها كانت هي خيوط الأمل التي سنتمسك بها في عزلتنا.
واصلنا العمل، ومر اليوم سريعًا ونحن نرتب القطع ونصل الأسلاك ونركب كل ما يلزم لإتمام المشروع، وقد بدأت الشمس ترسم لونًا ذهبيًا على رؤوس الجبال، وتُلقي علينا بآخر خيوطها.
أخيرًا، حان موعد اللحظة المنتظرة؛ لحظة الضغط على القابس. اجتمعنا جميعًا حوله، كل واحد منا مغمور بحماس صامت وترقب عميق، كمن ينتظر تحقيق حلم طويل الأمد. مددتُ يدي وضغطته، فانطلقت الإضاءة في المكان، تشع بنور دافئ في كل زاوية. لم تكن مجرد مصابيح تضيء غرفةً صغيرة، بل كانت شعلةً تبعث الحياة في المكان، تُمدّنا بشعور من الراحة والانتماء الذي طالما اشتقنا إليه. ضحكنا، صرخنا، وقفتُ أراقب ضوء المصباح وهو يزيح ظلام الأيام الماضية، وفي لحظات، كانت القلوب ممتلئة بأكثر مما يمكن أن تصفه الكلمات.
ثم شغَّل مجيد جهاز التلفاز بابتسامة عريضة، وبدأ يتنقل بين القنوات حتى استقر على قناة تعرض فيلمًا قديمًا لرعاة البقر. نظرت إليه مازحًا وقلت: "وهل هناك فيلم أكثر إثارة من المغامرات اليومية التي نعيشها هنا؟!" ضحكنا جميعًا، والتصقت أعيننا بالشاشة كأننا أمام أعجوبة جديدة في هذا العالم النائي. ولكن، فجأة انطفأ كل شيء! عمّ الظلام المكان، وسمعنا صوت الميلود يصيح: "ماذا حدث؟!" فضحكتُ وقلت له: "وقت النوم قد حان، يا صديقي! البطاريات لم تُشحن بعد بالكامل. غدًا، مع أول شعاعِ شمسٍ، ستعود الطاقة لمصابيحنا وتلفازنا... ونستأنف فيلمنا الكبير!"
كانت تلك الليلة مشبعة بالأمل، وكل منا شعر وكأنه استمد من وهج المصابيح دفعة جديدة من الطاقة تدفعه للأمام. ضوء تلك المصابيح الصغيرة أضاء مساحات واسعة داخلنا، وكأننا فتحنا بابًا نحو مستقبل أكثر إشراقًا لن نغلقه أبدًا. في تلك اللحظة، تلاشى الشعور بالعزلة والصعوبة، وتحوّلت الحياة في هذا المكان القاسي إلى رحلة مليئة بالوعد، حيث تمنحنا الأرض بين الحين والآخر لحظات من الأمل؛ لحظات نتشبث بها لنواجه قسوة الأيام، ونكمل مشوارنا بأمل لا ينطفئ!
...يتبع
عدد القراء